خطب

الكلمات القصار للإمام علي عليه السلام
 

1

كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب.


اللبون من الإبل والشاء هي ذات اللبن قل وكثر. وابن اللبون فصيل الناقة قبل أن يقوى ظهره للركوب، يصلح ضرعها للحليب، ظهر بالرفع اسم "ل" العاملة عمل ليس على مذهب الحجازيين، خبرها محذوف، التقدير لا ظهر صالحا للركوب، لا ضرع صالحا للحليب، الفعل المضارع هنا منصوب بأن‏مضمرة بعد الفاء لوقوعها بعد النفي المحض مثل ما أعرف دارك فأزورك أي‏كي أزورك.

والمراد بالفتنة هنا الباطل، المعنى إذا رأيت باطلا فلا تدخل فيه، احذر من أهله أن يخدعوك ويستغلوك في أغراضهم ومآربهم.. وسكت الإمام في حكمته‏هذه عن الحق وأهله، ليس معنى سكوته عنه وعنهم أنه ينهى عن الدخول في‏شأن المحقين ومناصرتهم، انه يساوي بينهم وبين المبطلين..كل، ألف كل، لأن مثل هذا الكلام يقتصر فيه على دلالة المنطوق دون المفهوم..هذا، الى ‏أن كلمات الإمام ووصاياه بنصرة الحق وأهله تجاوزت حد الإحصاء، من ذلك‏قوله لولديه الحسن والحسين "كونا للظالم خصم، للمظلوم عون".كما جاء في الرسالة 46، ذمه للذين لم يحاربوا معه الناكثين بأنهم لم ينصروا الحق، لم يخذلوا الباطل.

وخفي المعنى المراد من هذه الحكمة على كثير من الشارحين، خبطوا فيه، فهموا منه أن الإمام أمرنا بأن نسكت أيام الفتنة، نعتزل إذا رأينا باطلا يتبعه‏قوم ويعارضه آخرون، حتى ان بعض الشارحين قال "أراد الإمام أن يكون‏ الإنسان أيام الفتنة ضعيفا غير مستكثر من المال"!. ولا أعرف السبب الموجب‏لحشر المال هنا!و حاشا لله وللإمام الذي أوقف نفسه للحق، ضحى بها في‏ سبيله أن يأمر بالفرار من جهاد الباطل والفساد.

وبعد، فكلنا نحنـأ بناء الهيئة العلمية الدينية ـ نحفظ هذه الحكمة عن ظهر قلب تماما كما نحفظ سورة الإخلاص، نرويها ونوصي به، لكن ما لها في‏أعمالنا وأعمال معظمنا من نصيب..فهذا يؤيد زعيما طاغية ويقول أريد أن‏أعيش، ذاك يوقع عريضة مسمومة ملغومة إرضاء لشهوة رئيس ومتزعم، آخر يزيف ويحرف بوحي الشركات ومكاتب الاستخبارات، رابع إمعة يستجيب‏لكل ناعق وشاهق.. وهنا يكمن السر في أننا نسير من ضعف الى ضعف، يكثر فينا أهل الجهل والدجل.

2

أزرى بنفسه من استشعر الطمع، رضي بالذل من‏كشف عن ضره، هانت عليه نفسه من أمر عليه السانه.


الطمع ضد القناعة، لكن كثر استعماله ضد المروءة والورع حتى صار حقيقة فيه، أما حكمه فيقاس بآثاره ونتائجه، ان خيرا فخير، ان شرا فشر.

وقول الإمام من استشعر الطمع معناه من اتخذه دينا له وديدنا بحيث لا يلتزم‏بشي‏ء إلا على أساس منفعته الخاصة. ومن كان كذلك فقد حقر نفسه بنفسه، لأن الإنسان يقاس بأهدافه وأمانيه. ومن كانت همته بطنه كانت قيمته ما يخرج‏منها كما قال الإمام.

وقد يبتلى الإنسان بمرض وفقر وغيرهما من الآفات. وما من شك ان‏المرض بلاء، الفقر مصيبة، لكن الكشف والإعلان عنهما وعن أية آفة فضيحة. وقديما قيلا لشكوى لغير الله ذل.. وأية جدوى من الشكوى الى ‏الناس ما دامت لا تدفع ضر، لا تجلب نفع، تسوء المحب، تسر المبغض؟

وأيضا لا جدوى من أمر المبتلى وحثه على الصبر وكتمان العلة إلا إذا كان ذا عقل‏رزين، لأن الصبر على قدر العقل.

والشكوى من مقولة الكلام وصفاته، لذا عقبها الإمام بالإشارة الى اللسان، مر الحديث عنه في شرح الخطبة 94 فقرة "السكوت" وغيره. وقال مجرب‏حكيم يتنازع لسانك عقلك وهواك، فإن غلب الأول فهو لك، ان غلب‏الثاني فهو عليك، فلا تطلق لسانك حتى تعلم ان كلامه لك لا عليك.

3

البخل عار. والجبن منقصة. والفقر يخرس الفطن عن‏حجته. والمقل غريب في بلدته. والعجز آفة، الصبر شجاعة. والزهد ثروة. والورع جنة.


البخل يخطط لصاحبه منهجا يسير عليه في تفكيره وسلوكه، لا يحيد عنه‏بحال، هذا المنهج يرفض بطبعه التعاون على الخير ومصلحة الفرد والجماعة، يهدي الى القسوة وعدم الاكتراث بالناس ومشاكلهم.. ومن لا يهتم بهموم الناس‏فليس منهم ولا من الانسانية في شي‏ء. ونعطف على ذلك ما جاء في الآثار من‏أن البخيل يعيش في الدنيا عيش الفقراء، يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء، انه كالخنزير لا ينتفع به إلا بعد موته حيث تنهشه الكلاب، ان البخل يفسد الرأي، يمنع صاحبه عن رؤية الحقيقة، لأنه ينظر الى الأشياء من خلال ذاته‏الشحيحة الشاحبة.

واذا كان الإمساك رذيلة فالبذل والتضحية فضيلة في كل زمان ومكان، لكن‏إطعام الطعام قد بلغ الغاية والنهاية من التقديس عند القدامى، بخاصة العرب‏الذين اعتبروه سببا رئيسيا من أسباب السيادة والقيادة، ملأوا الدنيا في المديح‏و الثناء نظما ونثرا على صاحب الخوان، كنوا عنه بجبان الكلب وكثير الرماد والنيران.. ووضع الجاحظ كتابا في البخلاء، أفرد الكثير من المؤلفين بابا طويلا في كتبهم لذم البخل والبخلاء، مدح الجود والأجواد.

والسر العسر والمعيشة الضنكى في ذاك العصر حيث الجائعون من كل بلد بالآلاف‏أو بالمئات..هذا، الى ان المسافرين كانوا يسيرون أياما وأشهرا على الأقدام‏أو على الحيوان، لا مطاعم وفنادق، فلا بدع اذا كان لإطعام الطعام شأنه‏و وزنه، من هنا ساوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين السلام في قوله "أفضل‏الأعمال إفشاء السلام، إطعام الطعام".

حتى الماء كان لباذله أجر وفضل على قدر عطش الظمآن ولهفته، لتعذر الوصول الى مجرى الماء ومصدره..أما الآن، قد غير العلم الأرض ومن عليها وخطا بالبشرية خطوات يسرت لها العسير، قربت لها البعيد، حققت الكثير من مطالبه، أما الآن فلم يعد لإطعام الطعام ونحوه ذاك الوزن والأثر الذي كان‏له من قبل.. وليس معنى هذا ان الكرم قد تحول عن طبيعته ونزل عن مرتبته، إنما يعني ان مظاهر الكرم قد تغيرت وانتقلت من التعاون الفردي الى التعاون‏الاجتماعي، من إطعام الرغيف الى بناء دار للأيتام، مستشفى للمعوزين، مدارس للمتعلمين، من سقي الظمآن الى ري الأراضي، تحويل الصحراء الجرداء الى جنات وعيون، معنى هذا أن معنى الكرم قد عم واتسع بعد أن‏كان ضيقا ومحدود، ان اسم الكريم قد تطور الى اسم المصلح والمنقذ.

(والجبن منقصة) لأن الجبان يرى المنكر فيتعامى عنه، يسمع دعوة الجهاد في سبيل الله والحق فيصد عنه، إذا شكا اليه مظلوم أدار له ظهره، إذا أراد أن يتكلم خاف من النقد.. وهكذا يسلبه الخوف ما يملك من طاقات، يعيش حبيسا بين جدران الهواجس والأوهام بلا شخصية وإرادة، لا زهرة أو ثمرة إلا الهدير والثرثرة.. وهل علمت وسمعت أن للجبان شأنا وتاريخا؟.

(والفقر يخرس الفطن عن حجته) لأن الفقر يضغط على العقل، يسد أمامه منافذ الرؤية..اللهم إلا إذا كان للفقير هدف أعلى يضحي بحياته من أجله، ينسى معه نفسه وبؤسه، كطلب العلم والحرية لوطنه، كما حدث لكثير من‏الفقراء المناضلين الأحرار. وتقدم الكلام عن الفقر مرات ويأتي أيضا.

(والمقل غريب في بلدته) ومثله قول الإمام "الغنى في الغربة وطن، الفقر في الوطن غربة" لأن من شأن الوطن أن يسهل لك العسير، يستجيب‏لحاجتك وأمنيتك، المال قاضي الحاجات، الفقر أصل الويلات، من هنا كان الفقر غربة في الوطن، الغنى وطنا في الغربة.

(والعجز آفة) وكلمة العجز تعم وتشمل وباء الفقر والمرض والجهل، هذه ‏الأوباء الثلاثة آفة الإنسانية بكامله، منها تنبع القبائح والرذائل، بخاصة الفقر فإنه السبب القريب والبعيد لأكثر الآفات والمشكلات.

(والصبر شجاعة) وجهاد. وحين يتحدث الإمام عن الصبر وفوائده فإنه‏يتحدث عن علم وتجربة، فلقد رأى وشاهد صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة على‏الأذى والتنكيل في سبيل الإسلام، ثباتهم عليه مستهينين بكل شي‏ء، هذا الصبر هو الأصل والأساس لحياة الإسلام وانتشاره، على صخرته تحطم الكفر والشرك، لو لا هذا الصبر والثبات ما كانت الهجرة ولا بدر وأحد والأحزاب، بالتالي ما كان للإسلام عين ولا أثر.

(والزهد ثروة، الورع جنة) المراد بالزهد التورع عن الحرام، بالورع‏الكف عنه، عليه يكون العطف للبيان والتفسير، المعنى أن العفيف النزيه في‏غنى عن الناس، أمان من شرهم، لأنه بعفته ونزاهته يرضى ويقنع بالميسور، يكف أذاه عن الآخرين، القناعة كنز، كف الأذى حصن وصيانة. وتقدم‏الكلام عن ذلك مرارا وتكرارا مفصلا ومجملا.انظر شرح الخطبة 189 فقرة "التقوى".

4

نعم القرين الرضى. والعلم وراثة كريمة. والآداب حلل‏مجددة. والفكر مرآة صافية.


(نعم القرين الرضى) عليك أن تسعى جهدك للرزق، لا تتكل على القدر، إذا سعيت ونلت من الحلال دون ما أملت فارض بما تيسر ولا ترفضه وتتبرم‏به. وقديما قيل لا يترك الميسور بالمعسور، كيف والحرمان أقل منه، بعض‏الشر أهون من بعض؟خذ ما تيسر، انتظر الفرصة الى ما هو أفضل، لا تتعجل الشي‏ء قبل أوانه، فإن الأمور مرهونة بأوقاتها.. ولا أظن مخلوقا حقق‏كل ما ينشد من سعادة إلا من روض نفسه على التسليم والرضا بما لا سبيل الى ‏سواه، لا يقول لشي‏ء لم يكن ليته كان، لما كان ليته لم يكن.

والرضا بمنطق الواقع هو الذي عناه الإمام، أثنى عليه بقوله "نعم القرين ‏الرض" لأنه يحرر صاحبه من الحيرة والقلق، التبرم والسخط بلا جدوى.

وبالاختصار ان تعاسة الإنسان قد تأتي من داخله لا من خارجه، من صنع يده‏لا من صنع القدر، لأنه يرفض الانسجام مع ظروفه الخاصة التي تمسه في الصميم، تؤثر عليه وعلى شؤونه، لا يجني من معاندتها إلا الآهات والحسرات.. ورأيت‏من الشباب الجامعي من يأنف ويحتقر بعض الأعمال، لأنهاـ بزعمه ـ عيب يمس‏بكرامته، يطمح الى وظائف الأغوات وأبناء الذوات، فيبحث ويلهث وراء كل متزعم حتى اذا يئس عاد الى ما استنكف عنه من قبل، طلبه بلهفة.. ولكن بعد فوات الفرصة التي لا سبيل الى مردها..فقعد كسيحا خاسر، لأنه‏أراد القفز أكثر مما تستطيع عضلاته.

وهكذا قضت حكمة الخالق جل وعلا أن يعاقب بالحرمان من استنكف عن‏رزقه المكتوب.

وأيضا رأيت كثيرا من الشباب الجامعي يستسلمون لمنطق الواقع، لا يأنفون‏من وظيفة كاتب بسيط، بعضهم من حملة الدكتوراه، مع الصبر والأيام صار أحدهم مديرا عام، آخر استاذا جامعي، رئيسا لمصلحة، قاضيا مرموقا.. ولا سرـ فيما أعتقد ـ إلا الرضا والصبر الذي هو من مظاهر الحمد والشكر، فأنجز لهم سبحانه قوله ووعده لئن شكرتم لأزيدنكم ـ7 ابراهيم.حمدا لله وشكرا.

(والعلم وراثة كريمة) قال ابن أبي الحديد في شرحه "كل عالم يأخذ العلم من استاذه فكأنه ورث العلم عنه" وتبعه ميثم في هذا التفسير وقال "العلم‏وراثة عن العلماء" وقال شارح ثالث "أخطأ الاثنان، الحق في التفسير ان‏ العلم يؤخذ بلا عوض تماما كالإرث".. ولو تنبه هؤلاء الشارحون لقول الإمام‏في الحكمة رقم 147 لأراحوا واستراحوا من هذا التكلف والتعسف. قال الإمام‏في هذه الحكمة من جملة ما قال "العلم يكسب الانسان جميل الأحدوثة بعد وفاته" وهذا بالذات هو مراد الإمام بقوله "و العلم وراثة كريمة" فإن كلام‏الإمام يفسر بعضه بعض، لأن مصدره واحد.. وكلنا يعلم ان الناس يذكرون ‏الانسان بعد وفاته بأفعاله وصفاته، ان العلم من الصفات الجلى.

(والآداب حلل مجددة).الحلل المجددة كناية عن البهجة والزينة الدائمة، المراد بالآداب هنا الصفات الحميدة عند العقل والعقلاء، كالبلاغة والذكاء وحسن‏السلوك، ما إلى ذاك من الفضائل الشخصية والاجتماعية..نقول هذا مع العلم‏ان تحديد المفاهيم ومعاني الألفاظ من أدق الأشياء وأصعبها.. ولكن هذا ما فهمناه‏من سياق الكلام، منطق الواقع، فإن كان هذا ما أراده الإمام من كلامه‏هنا فذاك، إلا فإن الإمام لا يرفض المعنى الذي فهمناه لأنه حق في نفسه ومن‏حيث هو.

(والفكر مرآة صافية) المراد بالفكر هنا القوة المدركة العاقلة التي اذا أعملها الإنسان بعيدا عن الهوى والمحاكاة دلت على الحق والصواب، كنى الإمام عن‏هذه الدلالة الصادقة بالمرآة الصافية التي تعكس الشي‏ء كما هو في واقعه. وأخذنا هذا التفسير من قول الإمام في الرسالة 30 "من تفكر أبصر" وقوله في‏الحكمة 113 "لا علم كالتفكير" أي ان العلم بلا تفكير أكثر خطورة من التفكير الذي لا يدعمه علم، كما قال كونفوشيوس.

5

صدر العاقل صندوق سره. والبشاشة حبالة المودة. والاحتمال قبر العيوب (أو) والمسالمة خباء العيوب. ومن‏رضي عن نفسه كثر الساخط عليه.


(صدر العاقل صندوق سره) بعض الحاجات لا يستقيم قضاؤها إلا بالكتمان، من الجهل والحمق إفشاؤها وإذاعتها.. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزوا ورى.

ومن ضاق بسره فلا يلومن من أفشاه. والحق خاص بصاحبه، على كل إنسان‏أن يحترم هذا الحق ويقدسه، يحرم التجسس عليه.. ولكن الغرب قد انتهك‏هذا الحق، اخترع للتجسس على الشعوب والبيوت والأفراد آلات مذهلة شديدة الدقة، قد هددت حرية الإنسان وأصبحت حياته وأسراره مشاعا للذين يملكون‏هذه الآلات، يبيعونها كالسلعة لمن يدفع الثمن، فتحوا بنوكا وحوانيت لبيعها علانية وعلى علم من السلطة التي تصون الأمن الحريات.

وهكذا حولوا العلم من العمل لصالح الإنسان وخدمته الى الإضرار به والاعتداء عليه والقضاء على حريته، فرضوا عليه لونا جديدا من الضغط لا نظير له حتى‏في عصور الجهل والتخلف.

(والبشاشة حبالة المودة) اذا خرجت الابتسامة من القلب دخلت في القلب‏تماما ككلمة الصدق والإخلاص، أما ابتسامة المكر فهي وكلمة النفاق سواء، تخرج‏من الحناجر ولا تتجاوز الآذان.

(والاحتمال قبر العيوب) المراد بالاحتمال هنا الصبر على كلمة تافهة وحركة نابية من زوجة وولد وجار وأي سفيه، المراد بقبر العيوب أن هذا الصبر فضيلة تشفع في بعض العيوب، تسترها ـ على الأقلـ وأية جدوى من إظهار الغيظ والغضب إلا البغضاء والشحناء.

(ومن رضي عن نفسه كثر الساخط عليه). كثرة الادعاء تدل على كثرة العيوب، من استطال على الناس بما فيه وبزور يدعيه فقد فتح عليه أبواب‏الذم والطعن والسخرية والاستهزاء والمقت والكراهية.. والعالم حقا يتواضع ويتوقع‏الخطأ من نفسه، الدعي اللصيق بأهل العلم يرى نفسه مصدر الحق والصواب.. ولاحظت من تتبعي لأقوال العلماء وآرائهم ان العالم بحق يعرض رأيه بحذر، أما الضعيف في معرفته فيؤكد أقواله جازما بأنها الحق الذي لا ريب فيه، ان‏غيرها هراء وهباء. والسر أن القوي بعلمه يعتمد على العقل، الضعيف يثق‏بعاطفته، يقول بوحي منه، يظن أنه يقول بإملاء العقل والوجدان. وهذاهو الجهل المركب.

6

الصدقة دواء منجح. وأعمال العباد في عاجلهم نصب‏أعينهم في آجلهم.


المراد بالصدقة هنا كل معونة تسد حاجة من حاجات الحياة خاصة كانت

كإغاثة الملهوف، أم عامة كبناء ميتم يأوي المشردين، أم مصنعا ينتج الغذاء والكساء والدواء للمحتاجين. وأي دواء أكثر نفعا من خدمة الإنسان وسد حاجاته؟

وليست هذه الصدقة والمعونة تجيب دعوة المضطر وكفى، بل هي أيضا دواء وخلاص من عذاب الحريق لمن ضحى وأعان يوم الحساب والجزاء.

ويأتي قريبا قول الإمام "من كفارة الذنوب العظام إغاثة الملهوف، التنفيس‏عن المكروب". هذا إذا كان الملهوف والمكروب واحد، فكيف بإغاثة الأجيال‏و الألوف؟

(واعمال العباد في عاجلهم الخ)..من عمل في دنياه لمنفعة الآخر ينـيج  دثواب عمله مجسما نصب عينيه في آخرته.

7

اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم، يتكلم بلحم، يسمع بعظم، يتنفس من خرم.


المراد بالشحم هنا غير اللحم كالجلد الشفاف الذي يغطي شبكة العين ونحوه، أما العظم فالمراد به الغضروف، هو عظم طري.

أشار الإمام الى أربعة أعضاء البصر واللسان والسمع والأنف. وللعين مهمتان‏الأولى انها نافذة الى القلب تتسرب اليه منها ما تراه في الخارج.المهمة الثانية انها مرآة تعكس في كثير من الأحيان ما هو مودع في القلب من حب وبغض، فطنة وبلادة، خير وشر، معنى هذا ان العين تعطي القلب وتأخذ منه، تؤثر فيه، يؤثر فيه. وأيضا معنى هذا ان كل ما في العين لا بد أن يكون‏رقيقا شفافا يحكي عما وراءه، نقيا صافيا ينعكس فيه ما تقع عليه العين، من‏البداهة أن في اللحم غلظة وكثافة، ان كان اللحم أقل كثافة من العظم، الشحم أخف وأرق من اللحم، هو أشبه ب "النيلون".

أما اللسان فهو أكثر الأعضاء حركة وقبضا وبسطا..تجري حركته بسرعة بلا تعب وكلال عند الكلام والشراب والطعام، عند ابتلاع الريق وقذفه، بل يتحرك عند السكوت وترك الطعام والشراب..فاستدعى ذلك أن يكون لحمار طبا بلا عظم وعصب، أن يكون في الفم بمنزلة الصدر للقلب صونا له من‏العوارض الخارجية.

و أما الأذن فهي الأداة اللاقطة للصوت، الصوت يحمله الهواء، لا يدخل‏الى الأذن إلا بعد انكسار حدته، فجعلها سبحانه عضوا لينا لا لحما مسترخي، لا عظما صلبا بل عظما طريا متماسكا.

أما التنفس في الإنسان فيقول أهل الاختصاص أن له عضلات كثيرة، أهمها الأنف، به يستغنى عن الفم لاستنشاق الهواء، قد جعل سبحانه تجويفه بقدرالحاجة، لو كان أوسع مما عليه لدخل الى الجوف من الهواء أكثر من المطلوب، أضيق لدخل دون القدر اللازم، أيضا جعل التجويف مستطيلا لينحصر فيه‏الهواء وتنكسر حدته قبل أن يصل الى الدماغ، إلا صدمه بقوته وأوقفه عن‏الحركة.

فسبحان الذي خلق فسوى، قدر فهدى.

8

إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره. وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه.


المراد بإقبال الدنيا على الإنسان أن ينال منها ما يغبط عليه ويحسد، المراد بإعارته محاسن غيره أن يرفع فوق منزلته، كمن ساد، ما هو بأهل للسيادة.

وليس من الضروري أن تنسب اليه فضائل الآخرين، كما توهم الشارحون، بل‏قد يكون ذلك، قد لا يكون، المعيار أن يقدر بأكثر من ثمنه. والمراد بسلبته محاسن نفسه أن تبخس أشياؤه، يبهظ حقه ومقامه. والأمثلة على ذلك‏لا تحصى كثرة، منها ان يؤلف شهير كتاب، فيقبل عليه الناس ويشتروه بأغلى‏الأثمان، يكيلوا له المديح بلا حساب، يستشهدوا بكلماته كدليل على الحق!.

ولو نسب هذا الكتاب بالذات الى مغمور مجهول لأعرضوا عنه.. وربما سخروا منه.

وفي الخطبة 107 أوضح الإمام السبب الموجب وبينه بقوله "فهو عبد لهاـأي للدنيا ـولمن في يده شي‏ء منها حيثما زالت زال اليه، حيثما أقبلت أقبل‏عليه".انه يقبل ويدبر بوحي من دنياه ومصلحته، هو يظن أنه ما فعل‏و ما ترك إلا بإملاء الحق والعدل.

9

خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم، إن‏عشتم حنوا إليكم.


فرق بعيد بين النفاق وحسن المعاشرة، فالنفاق أن تضمر البغض وتظهر الحب، أما حسن المعاشرة فهي أن تحسن ولا تسي‏ء، تحب ولا تكره، تعين ولا تخذل.. وبهذا تكون محبوبا عند الناس يبكون عليك ان مت، يحنون علي ك‏ان غبت.قال سبحانه ﴿وقولوا للناس حسنا ـ83 البقرة.

وقديما قيل أحبب لغيرك ما تحب لنفسك.. ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. ومن أقوال ‏الإمام أسوأ الناس حالا من لم يثق بأحد لسوء ظنه، لم يثق به أحد لسوء فعله. وقال القريب من قربته الأخلاق، الغريب من لم يكن له حبيب. وتقدم ذلك في الرسالة.30

10

إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.


علمتني التجربة وتكرارها أشياء، منها أن من فر الى الله وقرع بابه مخلصا أغاثه وشمله بعنايته، منها أن من شكر القليل من فضله تعالى زاده أضعاف، من رفضه وتبرم به طلبا للكثير عاقبه بالحرمان، ان من أبى إلا القصاص بيده‏ممن أساء اليه تركه سبحانه وشأنه يشفي غيظه من عدوه ان استطاع، ان من‏عفا عن حقه الخاص لوجه الله كان له ناصر، عوض عليه أضعافا مضاعفة.

ويأتي قول الإمام أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة. وقوله أول عوض‏الحليم من حلمه ان الناس انصاره على الجاهل.

11

أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، أعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.


قالوا في تعريف الصديق وصفاته وأكثرو. والوصف الداخل في ماهيته أو اللازم لها هو أن الصديق حقا وواقعا يرفض الشائعات عن صديقه حتى ولو كان‏على جهل بمصدره. وهذا الصديق ثروة وعدة في الدين والدني، قال تعالى‏حكاية عن أهل النار فما لنا من شافعين ولا صديق حميمـ101 الشعراء.

وقيل لحكيم قديم ما أفضل ما يقتنيه الإنسان؟ فقال "الصديق المخلص".

وإذا كان الإخوان أفضل قوة وثروة يقتنيها الإنسان فمن العجز أن تعيش بلا أصدقاء، ان ضيعت واحدا منهم بعد الظفر به فأنت أخسر الفاشلين، كما قال الإمام.

وقال بعض الشارحين للصداقة طرق وأسباب، عد منه "الملاقاة بالبشر والطلاقة". والحق ان السبب الوحيد للصداقة هو التوافق في الطباع حتى الطيور على أشكالها تقع. واشتهر عن نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منه اائتلف، ما تناكر منها اختلف. وتقدم الكلام عن الصداقة في الرسالة 30 وفيها يقول الإمام ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه.

وبعد، فلا متعة أعذب وأطيب من حديث تنفض به عن قلبك غبار الآلام‏و الأشجان أمام صديق يصغي اليك بروح زاكية تطمئن اليه، عاطفة دافئة تلجأ اليها.. ومن فقد متعة الإحساس بالصداقة فقد حرمه الله أجمل ما في الحياة، ان كان بيته مترفا ومزخرفا.

12

إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.


المراد بأطراف النعم أوائلها والقليل منه، بأقصاها نموها وزيادته، المعنى ‏ان الله سبحانه إذا أحدث لك نعمة فاحفظها وعظمها بالشكر والتدبير، من أي نوع كانت وتكون، ان حقرتها وقصرت في حفظها وشكرها سلبها الله منك، حرمك من غيره. وتقدم في الرسالة 68 قول الإمام "واستصلح كل نعمة أنعمها الله عليك، لا تضيعن نعمة من نعم الله عندك" .

وقد من سبحانه على المسلمين بدولة كريمة فلم يشكروها بالجهاد والإخلاص‏و أضاعوها بالخلافات واتباع الشهوات، فسيموا الخسف جزاء وفاقا.

13

من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد.


لا تيأس إذا أصابك شر من الأقارب والأرحام فأبواب الخير والنجاح عند الله‏لا يبلغها الإحصاء، فإن أغلق دونك باب منها فتح الله عليك ما هو خير وأجدى.. ومن توكل عليه كفاه حتى ولو كاد له أهل السموات والأرض ومن بينهن.

14

ما كل مفتون يعاتب.


المراد بالمفتون هنا من فعل ما لا ينبغي فعله، المعنى اذا رأيت شذوذا من‏إنسان فلا تبادر الى لومه وعتابه قبل أن تعرف السبب الموجب، فابحث‏و انظر، فإن كان السبب مشروعا كمن أكل من الميتة وسرق رغيفا لسد الجوعة فهو معذور إذا انحصر سبب الحياة بذلك، كان جاهلا بلا تقصير، ان‏كان لمجرد الهوى واللامبالاة بالدين والقيم فهو مأزور، عليك أن ترشده بالحسنى.. اللهم إلا مع اليأس من صلاحه وإصلاحه كابن عمر وابن وقاص وابن مسيلمة حيث أحجموا عن بيعة الإمام، لم ينصروا حق، يخذلوا باطلا.

15

تذل الامور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير.


يحذر الإمام بهذا من المخبآت والمفاجآت التي لا تراها العيون، لا تومى‏ء إليها القرائن من قريب وبعيد، يحذر كل إنسان من ذلك كي يحتاط ويحترس.. على ان الوقاية من الهلاك قد تكون هي السبب الموجب له، كالطبيب يصف‏نوعا من الدواء لمريضه بقصد الشفاء، فيقضي عليه، يتحصن الجيش من‏عدوه في مكان ملغوم، يفر من الجهاد طلبا للسلامة فيقع فيما هو أدهى وأمر.

16

سئل عليه السلام عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" فقال عليه السلام إنما قال صلى الله عليه وآله ذلك والدين قل، فأما الآن‏و قد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار.

الدين قل أي لم ينتشر بين الناس ويكثر أتباعه. والنطاق الحزام. والجران‏م قدم البعير يضرب به الأرض إذا استراح، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر الشيوخ‏من أصحابه أن يستروا الشيب عن العدو بالخضاب ليظهروا أمامه في هيئة الأقوياء.

فقال الإمام ذاك حيث كان الإسلام ضعيفا بقلة أتباعه، أما اليوم وقد ظهر على الدين كله فلم يبق لهذا الحكم من موضوع، فمن شاء فليترك الخضاب، من‏شاء فليخضب. وبهذا القصد ألغى عمر سهم المؤلفة قلوبهم.

وتسألأ لا يتنافى هذا مع الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلال‏ محمد حلال الى يوم القيامة، حرامه حرام الى يوم القيامة؟.

الجوابان الأحكام الشرعية الإسلامية على نوعين الأول منهما يرتبط بطبيعة الإنسان‏و فطرته من حيث هو إنسان، هذا النوع من الأحكام لا يتغير ولا يتبدل تماما كنظام الكون والأفلاك في حركاتها الدائبة، لو اختل شي‏ء منه لانهار الكون‏بما فيه. وهذا النوع هو المقصود بالحديث المشهور. والنوع الثاني يرتبط بالحياة الاجتماعية، هذا تتغير أحكامه تبعا لتغير المجتمع من حال الى حال حيث يتغير موضوع الحكم وسببه الموجب، خضاب الشيب وعدم خضابه من هذا النوع‏و تقدم الكلام عن ذلك في شرح الخطبة 174 فقرة "التحليل والتحريم بين الإسلام ‏والمسيحية".

17

خذلوا الحق ولم ينصروا الباطل.


ضمير الجماعة في خذلوا ولم ينصروا يعود الى الذين لم يبايعوا الإمام، لم‏يحاربوا ضده ولا معه كابن وقاص وابن عمر.قال ابن أبي الحديد يدل هذا القول من الإمام أنه راض عنهم.أما ميثم فقال يجري هذا الكلام مجرى‏ العذر عنهم.

أما نحن فلا نرى ذما أوجع وأقذع من هذا..كيف وقد تهيأت لهم الأسباب‏الكافية الوافية لمناصرة الحق وخذلان الباطل؟ ومع هذا تجاهلوا وأحجموا.. وفي الخطبة 29 وبخ الإمام المتقاعسين عن القتال معه وقرعهم بقوله "لا يدرك‏الحق إلا بالجد.. ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟". وقال سبحانه ﴿فقاتلوا التي تبغي حتى تفي‏ء الى أمر اللهـ9 الحجرات. وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الساكت عن الحق شيطان أخرس..الى كثير من الآيات والروايات.

18

من جرى في عنان أمله عثر بأجله.


كل الأعمال بالآمال، لو لا الأمل لبطل العمل. والمذموم هو أن تطلق العنان‏لأملك في الدنيا وحطامه، تزاحم الآخرين، تعلن الحرب من أجلها غير مكترث بواجب وحرام، لا بدين وشريعة. ومن كان هذا شأنه نسي الموت‏و ما بعده، اختطفه على حين غرة، ذهب به الى خالقه بلا زاد واستعداد.

19

أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم فما يعثر منهم عاثر إلا ويدالله بيده يرفعه.


المراد بذوي المروءات كل من يأنف من القبيح، ينزه نفسه عما يشين، يتغافل عن زلل الاخوان، قال بعض السلف رأيت المعاصي مذلة، فتركتها مروءة.أما العثرات فالمراد بها بعض الهفوات والسقطات التي لا يخلو منها إلا من‏عصم ربك، المعنى تجاهلوا هفوة من كريم.. وأي الرجال المهذب؟. ولا يقيم‏الحد من كان لله عليه حد، كما قال الإمام أمير المؤمنين، قال السيد المسيحمن كان منكم بريئا فليرمها بحجر.يريد الزانية.

(ويد الله بيده يرفعه) أي انه تعالى يتداركه برحمته، ذلك بأن يهيى‏ء له‏أسباب التكفير عن هفوته وعثرته بالتوبة وبأية فضيلة من الفضائل إن‏ الحسنات يذهبن السيئاتـ114   هود.

20

قرنت الهيبة بالخيبة، الحياء بالحرمان. والفرصة تمرمر السحاب فانتهزوا فرص الخير.


الخوف من الله حتم، هو مقام الربانيين، الخوف من القول والفعل بلا علم‏حسن وجميل، هو من صفات العلماء والمتقين، كل خوف ما عدا هذين فهو جبن وخور.

فأقدم على ما يطمئن اليه قلبك، ان قال الناس وقالوا.. وان أحجمت خوفا من قيلهم وقالهم عشت حياتك سلبيا فاشلا..على أنك لا تسلم من ألسنة الناس‏و ان حذرت منها ومنهم.. وأحمد الله سبحانه الذي عافاني من هذا الداء، لو شاء لفعل. وتقدم الكلام عن ذلك في الحكمة رقم 2 عند شرح قوله "الجبن‏ منقصة".

(والحياء بالحرمان).الحياء من فعل ما لا يقره عقل ولا دين، تأباه‏الكرامة والمروءة هو من الدين في الصميم، سنة من سنن الأنبياء والمرسلين، خلق من خلق الأباة والسراة، أما الحياء من الحلال، بخاصة ما ينفع الناس‏فهو عجز وخوف، خنوع واستكانة، خلق من خلق الضعفاء والجبناء.

وهذا النوع من الخوف هو مراد الإمام، من أقواله "تكلموا تعرفو" ومن الأمثال العامة  "لا ينجب أولادا من يستحي من زوجته".

وبهذه المناسبة نشير الى ما قيل في تفسير هذا الحديث "مما ادرك الناس‏من كلام النبوة إذا لم تستح فافعل ما شئت". قيل في تفسيره إذا لم تستح من الله والناس فافعل ما بدا لك من حلال وحرام، حسن وقبيح. وهذا المعنى‏ معروف بين الناس. وقيل معناه إذا لم يكن في الفعل ما تستحي منه فافعله، لا بأس عليك. وكل من المعنيين صحيح يتحمله لفظ الحديث.

أما فرص الخير فإنها تمر من السحاب، كما قال الإمام، اغتنامها سعادة وكرامة، فواتها حسرة وندامة. ولا أرى مثيلا لمن أضاع الفرصة إلا منكر الجميل. هذا أخذ ولم يشكر، ذاك رفض ما يستوجب الشكر، كل مقصر.

وتقدم الكلام عن ذلك في الرسالة.30

21

لنا حق فإن أعطيناه وإلا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال ‏السرى.


الراكب اعجاز الإبل هو الرديف أي الراكب خلف الراكب. والسرى:  سير الليل، المراد به هنا طول الأمد. ولا خلاف بين أحد في ان الإمام كان يرى أنه‏أحق بالخلافة من جميع الصحابة دون استثناء، انه احتج لحقه هذا بالحسنى، أقواله في النهج وغير النهج صريحة في ذلك. وقال هن: ان أعطي هذا الحق‏عن رضا وطيب نفس فذاك، إن زاحمه عليه مزاحم صبر ولا يثير حربا حتى‏و لو جاء رديف، بل ورابع، طال الأمد سنوات وسنوات..لا لشي‏ء إلاحرصا على مصلحة الاسلام والمسلمين، خوفا من الفتنة وانشقاق الكلمة. وهذا ما حدث بالفعل.

وقيل: يجوز أن يكون مراد الإمام انه اذا لم يحصل على حقه في الخلافة ركب الصعاب من أجله. وهذا المعنى قريب من دلالة اللفظ، بعيد عن الواقع، لأن الإمام ما زاد شيئا عن النقاش والجدال بالتي هي أحسن.أما تفسير الشريف‏الرضي بالذل فأبعد من بعيد، لأن الله ورسوله يأبى الذلة لأهل البيت.

22

من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.

ليست الفضيلة بالمال والأنساب، بل بالعلم والعمل. ولا فرق بين أعمى بصر يعتمد على عص، أعمى بصيرة يعتمد على عظام المقابر. وصدق الله العظيم: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكمـ13 الحجرات.

23

من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس‏عن المكروب.


التنفيس عن المكروب عطف تفسير على إغاثة الملهوف. والصدقة عامة وخاصة كما أشرنا في شرح الحكمة 6 وكلام الإمام هنا عن الخاصة، من أمثلة الملهوف‏مريض لا يملك أجرة الطبيب وثمن الدواء، ذو عيال وأطفال يعجز عن قوتهم‏و نفقتهم، مدين لا سبيل له الى الوفاء، مظلوم لا يجد المعين على ظالمه إلا الله.

ولكل واحد من هؤلاء ومن اليهـكبد حرى لاهفة تائهة لا تدري ما الحيلةو الوسيلة؟فمن رد لهفته، رحم حيرتها صفح الله تعالى العظيمات من سيئاته وكان في‏عونه دنيا وآخرة. وفي الحديث: من لا يرحم لا يرحم. وقال الإمام: كما تدين تدان، كما تزرع تحصد.

24

يا ابن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه‏و أنت تعصيه فاحذره.


تكرر هذا المعنى في كلام الإمام بأساليب شتى، أيضا يأتي قوله:  "كم من‏ مستدرج بالإحسان اليه، مغرور بالستر عليه". والقصد الأول والأخير التحذير من معصية الله والركون الى الدنيا وزينتها.

وتسأل: لقد رأينا الكثير يزدادون طغيانا كلما ازدادوا مالا وجاه، مع هذا يمضون بلا مؤاخذة.. ولا يتفق هذا مع التخويف من العقوبة؟.

الجواب: المراد هنا التحذير من عذاب الآخرة، هي أشد وأخزى من آلام‏الدنيا وضرباتها.قال سبحانه: انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار42ابراهيم. وبكلمة:  ان الله يمهل ولا يهمل.

25

ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.


للتعبير عما في النفس العديد من الوسائل، منها اللفظ والكتابة والإشارة، منها الرقص والرسم والألحان، منها نظرات العين، ابتسام الفم وصفحات‏الوجه والعبوس والدموع، حتى الميني جوب وشعر الخنافس بل والصمت أيضا بعض‏الأحيان من وسائل التعبير.. وبالأولى فلتات اللسان.

وقال أديب شهير: يستحيل إخفاء الحقيقة، لأن قانون الفعل يقابله قانون‏رد الفعل، ان هذا القانون يطبق في المجال النفسي كما يطبق في المجال الميكانيكي، عليه فإن فعل الإخفاء يصطدم برد فعله، هو الإظهار بأسلوب وبآخر، بالتالي من وضع ستارا على الواقع هتكه رد فعله لا محالة.

26

إمش بدائك ما مشى بك.


اذا أحسست بفتور وألم فلا تسرع الى الطبيب، تخلد الى الفراش، بل‏اصبر وتجلد ما استطعت وامض في عملك، فربما كان الحادث طارئا لا يلبث أن‏يزول، متى عجزت عن الحركة فاخلد الى الراحة وخفف الطعام، لا تلجأالى الطبيب إلا عند الضرورة.. ومعنى هذا ان الإمام لا يشير باستعمال الدواء إلا للمضطر الذي لا يجد وسيلة الى الشفاء إلا به، لأن الدواء ان أفاد من جهة أضر من‏جهة ثانية. وتقدم قوله في الرسالة 30:  "ربما كان الدواء داء". وفي مستدرك‏النهج، عن الإمام انه قال: لا يتداوى المرء حتى يغلب مرضه صحته. وقرأت‏عن المعمرين أن أكثرهم لا يعرف طبيبا ولا دواء.

وقال بعض الشارحين: أوصى الإمام في حكمته هذه بالصبر على كل مكروه‏ما دام الصبر ممكنا! والرضا بمنطق الواقع حسن، لكن بعد الجهاد وإفراغ‏الوسع.

27

أفضل الزهد إخفاء الزهد.


في الخطبة 79 حدد الإمام الزهد بقوله:  "الزهادة قصر الأمل، الشكرعند النعم، التورع عن المحارم". وفي الخطبة 32 قسم الناس إلى أصناف، منهم من طلب الدنيا فنفرت منه، بعد اليأس تحلى باسم القناعة، تزين بلباس ‏الزهادة. وإذا عطفنا قوله هن: أفضل الزهد إخفاء الزهد، عطفناه على ماتقدم ـنتج معنا أن الزاهد حقا وصدقا هو الذي أرادته الدنيا فأعرض عنه، اذا أخفى ذلك عن الناس فقد أضاف فضلا الى فضل، زاده الله أجرا على أجر.

أما طريق الإخفاء فهو أن يلبس للناس المألوف لأمثاله، لا يتحدث عن‏زهده، ان حضر مائدة فيها ما لذ وطاب، أكل كأحد الحاضرين دون أن‏يشعروا أنه من الزاهدين.

28

إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى.


المراد بالإدبار هنا مضي الأيام من العمر، بإقبال الموت أنه آت في أجله‏لا يتقدم عليه، لا يتأخر عنه، المعنى أنت مسرع الى الموت فاستعد له.

وفي الرسالة 30 "من كانت مطيته الليل والنهار يسار به وان كان واقف، يقطع‏ المسافة وان كان مقيم".

29

الحذر الحذر، فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر.


الى متى تتمادى في غيكـأيها العاصي ـ أتظن أنك مهمل ومغفول عنك، مغفور لك؟ كل، انه تعالى يمهل ولا يهمل، ما سكت عنك إلا امتحان الك، رحمة بك عسى أن تثوب إلى رشدك وعقلك. وتقدم مثله مرار، آخرها في الحكمة.24

30

الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد.


والصبر منها على أربع شعب:
على الشوق والشفق والزهد والترقب.فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، من أشفق من النار اجتنب المحرمات، من زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، من‏ارتقب الموت سارع إلى الخيرات.

واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، تأول الحكمة، موعظة العبرة، سنة الأولين.فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة، من تبينت‏له الحكمة عرف العبرة، من عرف العبرة فكأنما كان في الأولين.

والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم وغور العلم، زهرة الحكم، رساخة الحلم.فمن فهم علم غور العلم، من‏علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، من حلم لم يفرط في‏أمره وعاش في الناس حميدا.

والجهاد منها على أربع شعب: على ‏الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، الصدق في المواطن، شنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين، من‏نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين، من صدق في المواطن قضي‏ما عليه، من شنى‏ء الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم ‏القيامة.

كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله يسمى مسلم، تجري عليه أحكام الإسلام، كالإرث والزواج والدية سواء أنطق بهذه الشهادة عن علم أم جهل، عن صدق أم نفاق.. وفي صدر الاسلام كانت كلمت: المؤمن والمسلم مترادفتين ومتقاربتين في المعنى، قد أطلق القرآن كلمة المؤمنين‏على المسلمين، خاطب الجميع بيا أيها الذين آمنوا في العديد من آياته.

وهناك آية تشترط في المؤمن الحق معرفة القلب، خشوعه لذكر الله، خوفه‏منه، توكله عليه مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، هي قوله تعالى: ﴿انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم ايماناو على ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون‏حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريمـ4 الأنفال.

وفي معنى ‏هذه الآية وقريب منه قول الإمام:  الايمان معرفة بالقلب، إقرار باللسان، عمل بالأركان.

ووجه الجمع بين هذه الآية وغيرها من الآيات التي أطلقت كلمة المؤمن على‏كل من نطق بالشهادتين هو ان هذا الناطق يعامل في الدنيا معاملة المسلم لمجرد النطق وكفى، في الآخرة يعامل على أساس القول والعمل مع، لا يكتفى منه‏ب مجرد النطق. ومهما يكن فإن الإمام هنا لا يتكلم عن الايمان من حيث هو وعلى‏وجه العموم والشمول، بل عن ايمان خاص يأتي بعد العصمة من غير فاصل بدليل‏انه جعل العدل من دعائمه، ليس من شك ان الايمان أعم، العدل أخص.

وهذا الايمان الذي يتكلم عنه الإمام يقوم على أربع دعائم، هي:

1ـ الصبر،
له أربع علامات : الأولى الشوق الى رحمة الله وجنته. ومن‏ البداهة أن من تطلعت نفسه الى نعيم الآخرة انصرف بجميع كيانه عن الدنيا وزينتها.

الثانية الشفق أي الخوف من عذاب النار، من خاف من شي‏ء ابتعد عما يؤدي ‏اليه.العلامة الثالثة اللامبالاة بالدنيا وأشيائه، أقبلت أم أدبرت، سالمت أم‏حاربت.الرابعة العدة والتأهب للموت بالتقوى والعمل الصالح.

2ـ اليقين الصادق الثابت،
أيضا له أربع علامات: الأولى الثقة بكل ما يصدر عنه، كما قال الإمام في الرسالة 61: "اني لعلى بصيرة من نفسي ويقين‏من ربي". وفي الخطبة 4:  "ما شككت في الحق مذ أريته". الثانية معرفة الحقائق على وجهه، كتنزيه الباري عن المادة والزمان والمكان والتشبيه والتعطيل‏و الجهل والظلم، كالعلم بالشريعة وأسرارها وبالبدع وآثارها.العلامة الثالثة الاتعاظ بالعبر والانتفاع بالنذر.الرابعة العمل بسنة السلف الصالح.

3- العدل،
علاماته أربع: الأولى(غور العلم) أي أسراره ودقائقه.

الثانية (غائص الفهم) أي تطبيق العلم على موارده، لا يكفي مجرد الحفظ والاطلاع، القدرة على الجدل واستخدام البراهين.العلامة الثالثة (زهرة الحكم) وهي وضوحه لكل الناس في الفصل بين الحق والباطل. الرابعة (رساخة الحلم) بحيث إذا غضب العادل فلا يخرجه الغضب من الحق ولا يدخله في الباطل.

4- الجهاد،
له أربع علامات: الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، الصبر والثبات في ميدان القتال، كراهية الظلم والفساد.

وكل هذه الدعائم التي ذكرها الإمام، العلامات لكل دعامة ـ تدل دلالة قاطعة على أنه يتحدث عن الإيمان الكامل المتاخم للعصمة، كما أشرنا.

31

الكفر على أربع دعائم:
على التعمق والتنازع والزيغ‏و الشقاق، فمن تعمق لم ينب إلى الحق ومن كثر نزاعه بالجهل دام‏عماه عن الحق. ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيئة وسكر سكر الضلالة. ومن شاق وعرت عليه طرقه وأعضل عليه‏أمره، ضاق عليه مخرجه. والشك على أربع شعب: على التماري‏و الهول والتردد والاستسلام، فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح‏ليله. ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه. ومن تردد في‏الريب وطئته سنابك الشياطين. ومن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلك فيهما.

للكافر عند المسلمين أصناف، منها أن يجحد الخالق من الأساس، يؤمن‏به وينكر اليوم الآخر، يؤمن بهما معا وينكر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها أن‏يجعل مع الله إلها آخر، ينسب اليه صاحبة وولد، منها أن يغالي في مخلوق‏و ينعته بصفة من صفات الخالق، ينصب العداء لأهل بيت الرسول صلى الله عليهم وآله وسلم، منها أن ينكر ضرورة دينية ثبتت بإجماع المسلمين، كوجوب الصوم والصلاة، تحريم القتل والسلب والنهب. وأشار الإمام الى أصناف الكافر بقوله: (الكفر على أربع دعائم) وهي.

1ـ التعمق،
المراد به اقتحام السدود المضروبة دون الغيب كالبحث عن‏ذات الله سبحانه وكنهه، تقدم ذلك في شرح الخطبة 89، جاء فيه:  "إن‏ا لراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدود المضروبة دون الغيوب‏ الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علم، سمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن‏كنهه رسوخ".

2ـ  التنازع،
أي الجدال في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، كمافي الآية 8 من سورة الحج.

3ـ الزيغ،
هو الانحراف عن الحق الذي يشمل الجحود بالله والنصب‏ والمغالاة.

4ـ الشقاق،
أي إنكار الحق عنادا ومكابرة، يصدق هذا فيما يصدق على‏ منكر الضرورة.

(فمن تعمق لم ينب الى الحق) المراد بلم ينب لم يرجع، المعنى من بحث‏عن ذات الله وكنهه يبقى حائرا مدى عمره، لا يرجع الى رشده إطلاق، لأن‏المحدود لا يدرك غير المحدود (ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق)لا شي‏ء وراء الجدال والنقاش بالجهل إلا الحيرة والضلال، أما الجدال مع العلم‏بالحق وإخفائه فهو نفاق وكذب متعمد (ومن زاغ الخ)..عن طريق الهدى رأى الخير شر، الشر خير (ومن شاق الخ)..أي تمرد على الحق فقدركب الصعب وسلك مسالك التهلكة، لن يجد فرجا ولا مخرجا.

(والشك على أربع شعب): الأولى التماري، معناه الجدال بلا تعمق، المراد به هنا السفسطة واللعب بالألفاظ البراقة التي تريك المستحيل ممكن، الممكن‏مستحيلا.الثانية الهول، أي الخوف من الوقوع في الخط، الخائف ينفر من‏خياله، يحسبه عدوا جاء لاغتياله.الثالثة التردد في العزم والنية، من كان‏هذا حاله لا يأتي بخير.الرابعة الاستسلام لكل راكب وقائد الى الهلاك والدمار.

32

فاعل الخير خير منه، فاعل الشر شر منه.


كل ما فيه جهة صلاح للناس بلا ضرر على أحد فهو خير، كل ما فيه‏جهة فساد بلا نفع وكان ضره أكثر من نفعه فهو شر. وليس من شك ان‏الفاعل علة للفعل، العلة أقوى وأكمل من المعلول، لأن لها من الصفات الذاتية ما لا يظهر ولا يمكن أن يظهر في المعلول أي أن في العلة ما في المعلول وزيادة.

وغير بعيد أن يكون مراد الإمام مجرد الحث على فعل الخير وترك الشر، ليس‏من قصده التفاضل بين الفعل وفاعله.

33

كن سمحا ولا تكن مبذر. وكن مقدرا ولا تكن‏ مقترا.


المبذر: ينفق المال فيما لا ينبغي، المقدر: يقدر العواقب، فينفق دون‏ما يكسب، يدخر الفاضل لوقت الحاجة، على الأقل قدرا بقدر. والمقتر: يضيق في النفقة على نفسه وعياله بلا ضرورة، السمح هو السهل اللين لا يقترو لا يبذر، يضع كل شي‏ء في محله، المعنى: كن بين بين، كما نطقت الآية29 من سورة الإسراء:  ﴿و لا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل‏البسط فتقعد ملوما محسور.

34

أشرف الغنى ترك المنى.


كل إنسان يتمنى أن تكون له زوجة صالحة وولد بار، أن يكون عالما عاقل، سليما معافى، غنيا عن الناس. وهذا النوع من التمني لا يوصف‏ بخير ولا بشر، لأنه لازم قهري لطبيعة الإنسان وفطرته، أما الذي يتمنى العفو والرحمة من الله، الخير لكل الناس، ان يمحق الله الظلم وأهله فهو من الطيبين ‏الأخيار. وليس من شك ان النبي وعليا وصالح المؤمنين تمنوا الهداية للناس اجمعين.

وعليه فالإمام يتكلم عن التمني الذي هو بالحمق أشبه، كالطمع في غير مقبل.

وعلى أية حال فإن التمني لا يجلب نفع، لا يدفع ضر. وقد يخدع الشهوات‏و يخدرها الى حين، كما قال المتنبي: 

منى ان تكن حقا تكن أحسن المنى‏
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

35

من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون.


من أساء الى الآخرين ذموه بالحق وبالباطل، اتخذ منهم أعداء لنفسه، البادي ‏أظلم، بل من ادعى ما ليس فيه مقته الناس، ذموه بأكثر مما يستحق.

36

من أطال الأمل أساء العمل.


الأمل هو الطاقة المحركة لحياة الانسان، القوة الدافعة له على العمل. فالتاجر يفتح حانوته أملا بالربح، الفلاح يزرع أملا بالحصاد، الطالب يجد ويجتهد أملا بالنجاح.. وهكذا، من هنا قال الإمام: طول الأمل، لم يقل الأمل.

وليس من شك ان طوله ينسي الموت، ان الانسان في طريقه الى الرحيل، من نسي هذا المصير تحدى جميع القيم، تعالى على الحق والعدل عنادا واستكبارا.

37

والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم. وإنكم لتشقون به على أنفسكم‏في دنياكم. وتشقون به في آخرتكم، ما أخسر المشقة وراءها العقاب. وأربح الدعة معها الأمان من النار.

قال الشريف الرضي: مر الإمام في طريقه الى حرب معاوية بمكان من بلاد العراق يسمى الأنبار، لما رآه زعماء الفلاحين نزلوا عن خيولهم وأسرعوا بين‏يديه، فاستنكر ذلك وقال: ما هذا الذي صنعتموه؟ قالو: خلق منا نعظم‏به أمراءنا.فقال: وأية جدوى لكم ولأمرائكم بهذا التقليد البغيض؟انه تعب‏و نصب عليكم في الدني، شقاء وإرزاء في الآخرة.

(وما أخسر المشقة وراءها عقاب). أخسر الناس صفقة من أتعب نفسه في‏دنياه، شقي في آخرته (واربح الدعة معها الأمان من النار). النعمة الكبرى‏أن تعيش دنياك في هدوء وطمأنينة، أن تأمن في آخرتك من عذاب النار وغضب‏الجبار..اللهم إنا في هذه النعمة لراغبون، أنت الوسيلة اليها وحدك لا شريك لك.

38

يا بني احفظ عني أربعا وأربعا لا يضرك ما عملت معهن: أغنى الغنى العقل. وأكبر الفقر الحمق. وأوحش الوحشة العجب. وأكرم الحسب حسن الخلق.يا بني إياك ومصادقة الأحمق فإنه‏يريد أن ينفعك فيضرك. وإياك ومصادقة البخيل فإنه يبعد عنك ‏أحوج ما تكون إليه، إياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه. وإياك ومصادقة الكذاب فإنه كالسراب يقرب إليك البعيد ويبعد عليك القريب. وتسأل: لماذا قال: أربعا وأربع، لم يقل: ثماني وصايا؟.

وأجاب بعض الشارحين بأن الأربع الأولى تعود الى ذات الانسان من حيث‏هو، الثانية من حيث سلوكه مع الناس!.. وهذا مجرد حدس وتكهن، الأقرب حمل الكلام على التوكيد والتحقيق، مهما يكن فالمعنى واحد، الوصايا الثمانية هي: 

1ـ العقل،
ليس المراد به هنا عقل اينشتاين واديسون وغيرهما من العقول‏الرياضية، بل المراد العقل الذي يقدر العواقب، يدفع بصاحبه الى التواضع‏و فعل الخيرات، يبتعد به عن الرذائل والمهلكات كالكذب والظلم والعجب، ما الى ذلك.

2ـ الحمق،
هو ضد العقل الذي أشرنا اليه، الأحمق أفقر الفقراء، لا ينتفع بعظة، لا يستفيد من تجربة، يتعجل الأمور بلا روية، لا يدرك عواقبها إلا بعد الفوات.

3ـ العجب،
هو جهل وصلافة، المعجب بنفسه ثقيل على كل قلب، لذا يعيش غريبا بين قومه.قال الإمام في الرسالة 30: الغريب من لم يكن له‏حبيب.

4ـ حسن الخلق،
أساسه الصبر والرفق وسعة الصدر، البعد عما يشين‏الكرام وأهل المروءات.

5ـ مصادقة الأحمق،
لأنها تضر ولا تنفع..انه ينصحك بصدق وإخلاص‏و لكن بلا عقل ولا علم.

6ـ مصادقة البخيل،
لأنه ضنين بالحق والوفاء..يأخذ منك ولا يعطيك إلا التجاهل والخذلان.

7ـ مصادقة الفاجر،
لأنه لا يعرف ولا يتعرف إلا على صكوك البيع والشراء ويعقد الصفقات مع الشيطان على دينه ووطنه، فلا بدع اذا باع صديقه بأبخس  ‏الأثمان.

8ـ مصادقة الكذاب،
لأنها نفاق ورياء، تلبيس وتضليل تريك الممكن‏مستحيل، المستحيل ممكنا.

39

لا قربة بالنوافل إذا أضرت بالفرائض.


النافلة يرجح فعلها ويجوز تركه، الفريضة يجب فعلها ويحرم تركه، فإن‏أمكن الجمع بين الاثنتين فذاك. وكلام الإمام منصرف عن هذه الحال، لأنها من الوضوح بمكان، إن تعذر الجمع ولم تسنح الفرصة إلا لواحد دون الآخرـ كما هو الفرضـف الواجب أولى وأهم، مثال ذلك في العبادة أن يتسع‏الوقت للفريضة فقط فتقدم على النافلة بلا ريب، مثاله في غير العبادة أن لا يتسع المال إلا لوفاء الدين فيقدم على الصدقة.هذه هي القاعدة كمبدأ ومنهج، على المجتهد أن يفرع ويطبق. والتفصيل في كتب الفقه.

40

لسان العاقل وراء قلبه، قلب الأحمق وراء لسانه.


اللسان ترجمان القلب وانعكاس عنه، وظيفة المترجم أن يصغي ويعقل عن‏ المترجم عنه، ثم يحكي ويروي ما سمع ووعى بالحرف الواحد، فإن غير وبدل ‏فقد خان، إن سبق ونطق قبل أن يسمع ويتدبر فهو مجنون، لأن الغيب لله‏وحده.. وهكذا يسرع الأحمق ويتعجل القول قبل أن يتدبره في عقله وقلبه، قبل أن يعرف العواقب، أما العاقل فيخزن لسانه، لا يقول إلا بعد الروية والتفكير والعلم بالعاقبة وانها له لا عليه. وتقدم مثله في الخطبة 174 ولكن الإمام‏ذكر هناك المؤمن مكان العاقل هن، المنافق مكان الأحمق. ويومى‏ء هذا الى ان ‏الإيمان لا يستقيم إلا مع العقل. وفي الحديث الشريف: أصل ديني العقل.

41

جعل الله ما كان من شكواك حظا لسيئاتك، فإن‏المرض لا أجر فيه ولكنه يحط السيئات، يحتها حت الأوراق.


وإنما الأجر في القول باللسان والعمل بالأيدي والأقدام. وإن الله سبحانه يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من‏عباده الجنة.

المراد بالشكوى هنا المرض. وكان بعض أصحاب الإمام مريضا فقال له: (جعل الله ما كان من شكواك الخ)..يستحق الإنسان الأجر والثواب على ‏خير يؤديه ويفعله مختار، لا على ما يحدث له قهرا كالمرض، فإنه تماما كالطول‏و القصر..أجل، قد يكون المرض مع الرضا بقضاء الله سببا للتخفيف من وطأة الذنوب وزوال أثرها والعذاب عليه، لأن المرض ضرب من العذاب.

هذا عن الثواب الذي كتبه الله تعالى على نفسه، جعله حقا لفاعل الخيرات، أما الثواب تفضلا وجودا وكرما فيجوز للمريض ولمن كف أذاه عن الناس، لكل ذي نية صادقة، غاية صالحة، لذا استدرك الإمام وقال: (وان الله‏ سبحانه يدخل بصدق النية والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنة)تفضلا منه وكرم، لأنه أهل العفو والمغفرة، الجود والرحمة.

42

يرحم الله خباب بن الأرت فلقد أسلم راغب، هاجر طائع، قنع بالكفاف، رضي عن الله وعاش مجاهدا.


قال ابن عبد البر في الاستيعاب: اختلفوا في نسب خباب، الصحيح انه‏تميمي النسب، خزاعي الولاء، لحقه سباء في الجاهلية، فاشترته امرأة من خزاعة وأعتقته، كان حدادا يعمل السيوف، فاضلا قديم الإسلام، ممن عذب‏في الله، صبر على دينه، من المهاجرين الأولين، شهد بدرا وما بعدها من‏المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال ابن حجر في الإصابة: روي أنه أسلم‏ سادس سنة، نزل الكوفة ومات بها سنة سبع وثلاثين. وقال ابن أبي الحديد: صلى عليه أمير المؤمنين  عليه السلام و دفن في ظهر الكوفة، شهد مع الإمام صفين‏و نهروان. وابنه عبد الله قتله الخوارج، فاحتج الإمام عليهم به وطالبهم بدمه. وأثنى عليه الإمام بهذه الصفات: (أسلم راغبا) عن بصيره ويقين، صدق‏و إخلاص، أوذي بالكثير من عتاة قريش في سبيل الإسلام، من ذلك أنهم‏أوقدوا النار على ظهره كي يرتد عن دينه، فثبت وصبر.. ولا جهاد أعظم من‏الصبر على التنكيل والأذى من أجل الحق ونصرته. وجاء يوما الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: ألا تستنصر لنا؟ألا تدعو لنا؟فقال له: قد كان من قبلكم‏يؤخذ فيحفر له، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، يمشطب أمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن الله‏هذا الأمر حتى يسير الراكب الى حضر موت فلا يخاف إلا الله.. ولكنكم تستعجلون.

(وهاجر طائعا). نشأ الإسلام في مكة فتألب عليه صناديد الشرك والطغيان، ساموا أهله سوء العذاب، هم لا يملكون أية قوة سوى الصبر والثبات، بعد13 سنة من صبر الأحرار على البلاءـ هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام ليكون قوةرادعة لأهل الضلال، حلقة جديدة من النضال والتضحية والفداء، فهاجر معه‏لهذه الغاية جماعة من الصحابة، منهم خباب، أنشأوا معسكرا للدفاع عن الدين‏و حماية المستضعفين، تأديب المعتدين.فصدق عليهم قوله تعالى: ان الذين‏آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة اللهـ218البقرة.

(وقنع بالكفاف) رضي من الرزق بما يكفيه ويغنيه عن الناس بلا زيادة، هذه فضيلة من أعظم الفضائل، لأنه بهذا الرضا قدم خباب خدمة كبرى للإنسانية بعامة، للمعوزين بخاصة حيث ساواهم بنفسه، لو أخذ الزائد عن سد حاجته، تمتع به لكان قد حرم المحتاجين قوتهم الضروري، صدق عليه قول الإمام في‏ الحكمة الآتية: "فما جاع فقير إلا بما متع به غني".

(ورضي عن الله) أي فرح بجزائه وثوابه(وعاش مجاهدا) يقاتل دفاعا عن الدين، صيانة لأرواح المستضعفين، ضمانا لحريتهم وكرامتهم.

43

طوبى لمن ذكر المعاد، عمل للحساب، قنع بالكفاف، رضي عن الله.


المراد بذكر المعاد هنا الإيمان بالبعث. ومن لم يؤمن به فلا يجديه الإيمان بالله‏ شيئ، لأن الإيمان بالله حقا يدخل في مفهومه الإيمان بكل ما يليق به من صفات‏ الكمال والجلال كالعلم والقدرة على إحياء العظام وهي رميم، من كفر بهذه القدرة فقد كفر بالله من حيث يريد ولا يريد..أما دعواه بأنه يؤمن بالله فهي خيال‏و سراب، لأنه يؤمن بكائن عاجز، العاجز لا يكون إله، بحكم البديهة.قال‏الإمام الصادق: ربما توهمت انك تدعو الله وأنت تدعو سواه.

(وعمل للحساب). وأيضا مجرد الإيمان بالله والبعث معا لا يجدي نفعا إلا مع العمل الذي ينال عليه العامل أجرا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوءـ30 آل عمران. وبكلمة الإمام جعفر الصادق عليه السلام:  "الإيمان عمل كله". (وقنع بالكفاف، رضي عن الله) تماما كخباب الذي‏تحدثنا عنه قبل قليل في الحكمة.42

44

لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني. ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني‏ما أحبني. وذلك أنه قضي فانقضى على لسان النبي الأمي‏ صلى الله عليه وآله أنه قال: "يا علي لا يبغضك مؤمن‏و لا يحبك منافق." 


قال ابن أبي الحديد:  "الخيشوم أقصى الأنف، الجمات جمع جمة مكان‏يجتمع فيه الماء، مراد الإمام إذكار الناس بحديث: "يا علي لا يبغضك مؤمن، لا يحبك منافق".

وبلغ هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حد التواتر المفيد للقطع، فلقد نقل‏بعشرات الطرق والأسانيد في العديد من الكتب، ذكر منها صاحب كتاب: الفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 207 وما بعده، ذكر من كتب‏السنة حوالي 16 كتاب، منها صحيح مسلم طبعة بولاق سنة 1290 ه وصحيح الترمذي ج 2 ص 301 طبعة بولاق سنة 1292 وصحيح النسائي ج 2 ص 271طبعة مصر سنة 1312 ومسند أحمد ج 1 ص 84 طبعة مصر سنة 1313 ومستدرك‏الصحيحين ج 3 ص 129 طبعة حيدر آباد سنة 1324 والاستيعاب ج 2 ص 464طبعة حيدر آباد سنة.1336

45

سيئة تسوءك خير عند الله من حسنة تعجبك.


كل منا يخطى‏ء ويسي‏ء، العصمة لأهلها.. والفرق ان بعض الأفراد يصر على الخطأ بعد بيانه، يرفض النقد، بل يزداد إصرارا اذا نبه الى خطئه‏و إساءته.. وليس شك في انه مجنون، قال الإمام : "الحدة ضرب من الجنون، لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم". وقال أيض: أشد الذنوب‏ما استهان به صاحبه".

والمنصف العاقل يجابه الواقع بصمود وشجاعة، يعترف بالخط، يصدق مع‏نفسه ومع الآخرين. وبهذا تصير سيئته من الحسنات، قال سبحانه عن التوابين: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتـ70 الفرقان. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:  "من رأى أنه مسي‏ء فهو محسن" والعكس صحيح أي: من رأى انه محسن فهو مسي‏ء، لأنه أفسد إحسانه بالعجب والتيه. ورب كلمة أفسدت الإيمان وقوضته‏من الأساس.

46

قدر الرجل على قدر همته. وصدقه على قدر مروءته‏و شجاعته على قدر أنفته. وعفته على قدر غيرته.


كثيرا ما تطلق الكلمات من غير قياس وتحديد، بالخصوص في عالم الأخلاق‏و القيم، فيؤدي ذلك الى الخلط وسوء الفهم والتفاهم بين الناس.. وأشار الإمام‏هنا الى المقياس الصحيح الذي يجب أن يقاس به قدر الرجل وصدقه وشجاعته‏و عفته: 

1ـ (قدر الرجل على قدر همته) وثقته بأنه يملك من الطاقات ما يغيربها مجرى الطبيعة والحياة، انه بالعلم والعمل يصل الى ما هو أفضل وأروع..

وكل من يؤمن بهذه الحقيقة، يعمل بموجبها يجب ان يقاس بها تقديره وتكريمه‏أي يحترم ويعظم لعلمه وعمله الى ما هو أتم وأكمل. وكأن الإمام يومى‏ء بهذا الى نفسه، لأنه المثل الأعلى لبعد الهمة وعلوه، فلقد كان في سن العاشرة حين‏قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا يا رسول الله، يوم دعا الرسول الى مائدته صناديد قريش، قال لهم فيما قال: أيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي‏و وصيي وخليفتي فيكم.قال علي: ان، ما هاب وارتاع من الرؤوس الكبار الذين‏يملكون الجاه والمال، استخف بهم وبهزئهم وسخريتهم، هو لا يملك إلا همته ومواهبه. وفي كتاب "عبقرية الإمام" علق العقاد على ذلك بقوله:  "فما منعته الطفولة وسن العاشرة أن يعلم أنه قوة لها جوار يركن اليها المستجير".

2- (وصدقه على قدر مروءته) ومعنى المروءة يجمع بين الإيجاب بفعل ما يستوجب المدح والثناء، بين السلب بترك ما يستدعي اللوم والذم، أما الصدق‏هنا فليس المراد به مطابقة الكلام للواقع بحسب اعتقاد المتكلم وكفى، بل المراد به حسن السلوك الذي لا يشاب بعيب ونقص، هو بهذا المعنى مرادف للمروءة أو لازم له، لذا يستدل على الصدق بالمروءة، بها عليه.

3- (وشجاعته على قدر أنفته) والشجاعة تشمل الصمود في القتال، تحمل‏المسؤوليات، مواجهة الصعاب بقلب ثابت، أيضا تشمل الاعتراف بالخطأ.

والأنفة استنكاف عن الجبن والعار، اذن الشجاعة من لوازم الأنفة، كل واحدة منهما تدل على أختها.

4- (وعفته على قدر غيرته) والعفة تشمل نزاهة اليد واللسان، البطن‏و الفرج، لكن المراد بها عفة الفرج فقط لمكان كلمة الغيرة. ويقال: غار الرجل على امرأته أي أنف أن يشاركه الغير فيه، من كان كذلك ينبغي له أن‏لا يعتدي على أعراض الآخرين، من هنا قيل: ما زنا غيور قط، معنى‏هذا ان الزاني لا يكون عفيفا ولا غيور، انه بحكم الديوث الذي يدخل الرجال‏على زوجته. ويروى ان جماعة من أهل الجاهلية تركوا الزنا لهذه الغاية.

47

الظفر بالحزم. والحزم بإجالة الرأي. والرأي بتحصين‏الأسرار.


يشير الإمام بهذا الى أن التخطيط شرط أساسي للظفر والنجاح، ان أي عمل‏من غير تصميم وتخطيط يذهب سدى، ربما كان ضررا محض. وهذه الحقيقة سمة العصر الحديث في المجتمعات الاشتراكية والرأسمالية على السواء، إنهم يخططون‏لكل شي‏ء، للانتاج والخدمات والمواصلات..حتى الحمل في بطن امه يخططون‏له، بل الكذب في صورة دعاية، أيضا له عندهم تخطيط ودراسة.

والشرط الأساسي في التخطيط الحزم، فسره الإمام بإجالة الرأي أي بالدراسة العلمية على ان تبقى هذه الدراسة طي الكتمان، لا يعلن عنها إلا بعد التجربة والنجاح التام، لأن الإعلان قبل العلم بالنتيجة حماقة وتنبؤ قبل الأوان، متى‏تمت الدراسة، نجحت التجربة أعلنت على الجميع ليستفيد منها القاصي والداني، لا يجوز إخفاؤها بقصد الربح والاحتكار، كما هو شأن المستغلين والمستعمرين‏في هذا العصر وكل عصر.

48

احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع.


تتمثل كرامة الكريم في تواضعه للفقراء إذا استغنى، تيهه على الأغنياء إذاافتقر، في تحمله الكلمة الموجعة من أهل الضعف والقلة وصفحه عند المقدرة، في ثورته وغضبه حين تمس كرامته من قريب وبعيد، لأنها لقلبه أشد الجروح‏إيلاما.أما اللئيم فعلى العكس..إذا استغنى بطر وطغى، ربما ترفع عن رد السلام الواجب على الفقراء، إذا افتقر ذل ووهن.. ولا يبالي بما يقال له ولا بما يفعل به

 "من يهن يسهل الهوان عليه‏  ما لجرح بميت إيلام".

49

قلوب الرجال وحشية فمن تألفها أقبلت عليه.


ومثله الحكمة الآتية:  "التودد نصف العقل". وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:  "تحبب الى الناس يحبوك..ثلاث يصفين ود المرء لأخيه: يلقاه بالبشر، يوسع‏له في المجلس، يدعوه بأحب الأسماء اليه" شريطة أن لا يكون ذلك نفاقا".

50

عيبك مستور ما أسعدك جدك.


المراد بالجد هنا الغنى وإقبال الدني، هي تستر العيوب وتغفر الذنوب عند أبنائها حيث ينظرون الى الأشياء من خلالها لا من خلال العقل، فمن كان في‏يده شي‏ء منها ستر عن أعينهم هذره وجهله، جبنه وبخله، ربما رأوا الجهل‏منه عقل، الضعف حلم، الهذر بلاغة. وتقدم مع الشرح قول الإمام في ‏الحكمة 8: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره.

51

أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.


تقدم مثله مرار، آخرها في الحكمة 10: إذا قدرت على عدوك فاجعل ‏العفو شكرا للقدرة عليه. ولا جديد عندنا نضيفه ونعطفه على ما قلناه هناك.

52

السخاء ما كان ابتداء، فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم.


التذمم: الفرار من الذم، التأثم: الفرار من الإثم، التحرج: الفرار من‏الحرج أي الشدة والضيق، المعنى ان العطاء من غير سؤال كرم وسخاء بالطبع، هو عن مسألة تكلف وتطبع لسبب ولآخر. وفي رأينا أن كل عطاء يسد الحاجة والإعسار فهو خير عند الله طبعا كان أم تطبعا.

53

لا غنى كالعقل. ولا فقر كالجهل. ولا ميراث كالأدب‏و لا ظهير كالمشاورة.


لا جدوى من مال ولا سلطان بلا عقل..ان العقل مصدر العلم والمال والجاه‏و كل خيرات الدنيا والآخرة. وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام:  العقل ما عبد به الرحمن، اكتسب به الجنان.فقيل له: و الذي عند معاوية؟ قال: تلك ‏النكراءـ أي الدهاءـ تلك الشيطنة. ولا يعرف التاريخ دينا كالإسلام أشاد بالعقل، اعتمد عليه في مبادئه وتعاليمه، قد جاء ذكر العقل والعلم ومشتقاته ما في القرآن الكريمـ880 مرة للدلالة على إحقاق الحق وإبطال الباطل..هذا ما عدا الآيات المشتملة على ذكر الهدى والنور. وهنا يكمن السر في تقدم المسلمين‏و حضارتهم التاريخية، إذا انحطوا وتخلفو، اليوم، فلأنهم تركوا الجهاد المقدس الذي‏أمرهم به الإسلام، انقسموا على أنفسهم، فالذنب ذنبهم لا ذنب الإسلام.

(ولا فقر كالجهل) لأنه أصل كل رذيلة، انه يلحق الإنسان بالحيوان.

و في أصول الكافي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:  "يا علي لا فقر أشد من الجهل، لا مال أعود من العقل..إذا رأيتم كثير الصلاة كثير الصيام فلا تباهوا به حتى‏تنظروا كيف عقله".

(ولا ميراث كالأدب) المراد بالميراث ما يتركه المرء من الأحدوثة، بالأدب‏حسن السيرة (ولا ظهير كالمشاورة) الظهير: المعين، المراد بالمشاورة مشاورة العاقل الناصح. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل‏له به أن يستشير عاقلا له دين وورع. وقال الإمام جعفر الصادق علي السلام للمشورة حدود: الأول أن يكون المشير عاقلا.الثاني أن يكون متورعا. الثالث أن‏يكون صديقا.الرابع أن تطلعه على سرك حتى يكون علمه به كعلمك بنفسك.

فإن كان عاقلا انتفعت بمشورته، ان كان متورعا جهد نفسه في النصيحة، ان كان صديقا كتم سرك، إذا أطلعته على سرك كملت النصيحة. وتقدم ‏الكلام عن ذلك في الرسالة 52 فقرة "المشورة" .

54

الصبر صبران: صبر على ما تكره، صبر عما تحب.


ومن أمثلة الصبر الأول: جائع لا يجد الى القوت سبيل، مريض لا يملك‏ثمن الدواء، سجين لا عم له ولا خال. ومن أمثلة الصبر الثاني فلاح زرع‏و اجتهد أملا بالحصاد، لما استوى الزرع على سوقه أتت عليه آفة، فأصبح‏هشيما تذروه الرياح. والصبر ممدوح وحسن إذا كان وسيلة لغاية نبيلة كالصبر في الجهاد المقدس، في طلب العلم وقوت العيال، أما الصبر على الفقر مع القدرة على العمل، الصبر على الاضطهاد بلا مقاومةـ فهو مذموم وقبيح شرعا وعقلا.

وروي أنه كان في العصور الخالية أسرة في الصين عاشت في بيت واحد، انها كانت تضم جدا وعشرات الأولاد والأحفاد ذكورا وإناث، مر عليها أمدغير قصير وما كدر صفوها كلمة ولا حركة من واحد من أبنائها وأفرادها حتى‏كان يضرب المثل بسعادتها وهنائه، لما سأل امپراطور الصين الجد الأعلى عن‏سبب هذه السعادة كرر في جوابه كلمة الصبر مئة مرة.

55

الغنى في الغربة وطن. والفقر في الوطن غربة.


كلمة الوطن توحي بالقوة والأهل وجمع الشمل، بالمتعة والراحة والطمأنينة.

والغني الواجد تتوافر له هذه الأوصاف، لأن المال قوة ومتعة، به تطمئن‏النفس وترتاح، الى صاحبه تتودد الرجال وإخوان الزمان..أما كلمة الغربة فإنها توحي بالضعف والوحدة والوحشة، بالألم والخوف والضياع، معنى هذا أن الغنى وطن بذاته سواء أكان في مكان الولادة أم في غيره، أن الفقر غربة وسجن وتشريد أينما كان ويكون حتى في مسقط الرأس، بل هو كفر أيضا كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الموت الأكبر كما قال الإمام في الحكمة الآتية، الوصف‏بالأكبر يومى‏ء الى ان الفقر أقسى وأشد من الموت المعتاد. وتقدم الكلام عن ذلك‏في الحكمة.3

ولا بد من الإشارة الى ان مراد الإمام بالغنى أن يملك المرء من أسباب العيش‏ما فيه الكفاية له ولعياله مع الكرامة أيض، ليس المراد به الذهب والفضة والديباج‏و الرياش.

56

القناعة مال لا ينفد.


القناعة أن ترضى بما تيسر من الحلال، تيأس عما في أيدي الناس. ومن‏البداهة أن من رأى الثروة فيما تيسر له من حلال ـ يستحيل أن تنفد ثروته، لأن المفروض ان الميسور هو الثروة بالذات، ان غير الميسور لم ينظر اليه على‏ الاطلاق. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طعامه لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقود. وفي‏شرح ابن أبي الحديد: إن رجلا قال لسقراط، هو يأكل العشب: لو خدمت‏ الملك ما احتجت الى هذا الحشيش.فقال له سقراط: و أنت لو أكلت الحشيش‏ما احتجت خدمة الملك.

57

المال مادة الشهوات.


وكلمة الشهوات هنا تشمل شهوة البطن والفرج، حب التعالي والتباهي، الرغبة في الانتقام والسيطرة، غير ذلك. وليس من شك ان المال مطية ووسيلة لإشباع هذه الرذائل والقبائح، متى شبعت بغت وطغت على العقل والقيم‏الانسانية، أصبح الانسان مسيرا لها لا يملك من أمره شيئ، قد ثبت بالحس‏و المشاهدة ان الانسان كلما أسرف في الماديات والشهوات ازداد بعدا عن الروحيات.

وعن ابن عباس انه قال: أول درهم ودينار ضربا في الأرض وضعهما ابليس ‏على عينيه، قال : قرة عيني أنم، لا أبالي الآن أن يعبد بنو آدم صنما ووثنا.

حسبي أن يعبدوا الدرهم والدينار.

وكتب مصطفى صادق الرافعي مقالا بعنوان "الدينار والدرهم" جاء فيه: الفقيه الذي يتعلق بالمال هو فقيه فاسد، يفسد الحقيقة التي يتكلم بها..فلقد رأيت‏فقهاء يعظون الناس في الحلال والحرام ونصوص الكتاب والسنة.. وتسخر منهم الحقيقة بذات الأسلوب الذي يسخر به لص يعظ لصا آخر، يقول له: إياك‏أن تسرق".

وبالمناسبة قال الاشتراكيون في ردهم على النظام الرأسمالي بأنه يفتح الطريق‏للأغنياء أن يسيطروا على رجال الدولة والحكم ويخضعوا السياسة لمصالحهم الخاصة وإلا حاربوهم بالأموال. والضحية الشعب والمستضعفون. ومن أحب التفصيل فليرجع ‏الى كتابن "فلسفة التوحيد والولاية" ، فصل "بين الشيوعية والرأسمالية".

58

من حذرك كمن بشرك.


المراد بالتحذير النصح بعلم وإخلاص، التخويف من سوء العاقبة باتباع ‏الشهوات، المراد بالبشارة الإخبار بالخير والهناء، المعنى: من حذرك من الشرفقد بشرك بالخير لو سمعت وأطعت. ومثله رحم الله من أهدى إلي عيوبي.

59

اللسان سبع إن خلي عنه عقر.


اللسان كثير الحركات والعثرات، لا بد من مراقبته وسجنه وإلا أهلك ودمر. وتقدم الكلام عنه في الخطبة 174 و231 والحكمة.39

60

المرأة عقرب حلوة اللبسة.

قال بعض الشارحين: المراد باللبسة اللسعة. وقال الشيخ محمد عبده:  اللبسة هنا من اللباس سوى ان المرأة تلبس دون العقرب. وهذا القول أقرب الى‏ الآية 187 من سورة البقرة: ﴿هن لباس لكم وأنتم لباس لهن.

والمرأة والرجل من طبيعة واحدة وطينة واحدة، الفرق ان لكل منهما وظيفة تخصه.. وشبهها الإمام بالعقرب لأنها تسرع الى الغضب على الرجل، تجحد معروفه لأمر تافه، قد تؤذيه بكلمة موجعة وحركة نابية بلا سبب موجب‏و معقول، فأوصاه الإمام بأن يصبر عليه، يتحملها على علاته، لأنها مهما تكن‏فهي أخف وخير من العقرب التي لا يمكن معها العيش بحال.. أقول هذا تعبيرا عن فهمي لا تفسيرا لقول الإمام عليه السلام.

61

الشفيع جناح الطالب.


المعنى واضح، هو أن الشفيع يوصل الطالب الى مطلبه، تماما كالجناح‏بالنسبة الى الطائر.. وأعظم شفيع عند الله التوبة، التوسل به إليه تعالى، لا واسطةـ في دين الإسلامـ بين العبد وربه. وقرأت من جملة ما قرأت أن‏رجلا قال لكريم: أنت الذي أحسنت إلي فيما مضى.فقال له:  "مرحبا بمن‏توسل بنا الينا وقضى حاجته".. وهكذا كل جواد كريم..أما الشفيع عند ناس هذا الزمان فهو النفاق والرشوة والخيانة.

62

أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام.


ومثله ما جاء في الرسالة 30: من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به‏و إن واقف، يقطع المسافة وان كان مقيما وادع. وتقدم البيان والشرح.

63

فقد الأحبة غربة.

الحب بين اثنين صورة من صور التعامل والتعاقد بين الأرواح على تبادل الصفاء والإخلاص، العطف والحنان، الإنس والسرور، الرضا والاطمئنان. ومن‏فقد هذه الثروة عاش غريبا وأعزل من كل سلاح. وتقدم مع الشرح في الرسالة30: الغريب من لم يكن له حبيب.

64

فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها.


مهما كان الصبر مرا وثقيلا فإنه أخف وأحلى من اللجوء الى لئيم.. والنفوس‏الطيبة الأبية تؤثر ألم العوز والصبر على منة اللئيم وتعنيفه..انه بطبعه لا يعطي إلا الأذى والإساءة، ان أعطى قليلا عن رغبة ورهبة عنف وتعالى، لا يحتمل‏هذا منه إلا خسيس وضيع.

65

لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه.

الوجود، ان قل، خير من العدم ما في ذلك ريب.. هذ، الى أن الأشياء تقاس بعواقبه، رب جرعة ماء ولقمة عيش أحيت نفسا زكية. ويأتي قول‏الإمام:  افعلوا الخير ولا تحقروا شيئا منه، فإن صغيره كبير، قليله كثير.

66

العفاف زينة الفقر، الشكر زينة الغنى.

العفاف زينة وفضيلة للفقير والغني وأيضا للملوك.. وخص الإمام الفقر بالذكر لأنه منقصة عند الناس، العفاف يكفر عنه. وأيضا الشكر زينة وفضيلة من كل ‏الناس، بل هو واجب عام، من كل حسب طاقته. وذكر الإمام الغنى بالخصوص‏لأنه في الغالب يبعث على الكبرياء والطغيان، فإذا شكر الغني وتواضع فمعنى هذا انه من الطيبين الأخيار. ويأتي قول الإمام: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله، أحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله.

67

إذا لم يكن ما تريد فلا تبل ما كنت.


فلا تبل أي لا تبال من المبالاة بمعنى الاكتراث، حذفت الألف للتخفيف، والمعنى لا تأسف على ما فات مهما كانت ظروفك وأحوالك، لأن الحزن لا يرجع‏ما فات، الفرح لا يبقي ما هو آت. وقال واحد من الزاهدين:  "ما أصنع‏بدنيا ان بقيت لها لم تبق لي، ان بقيت لي لم أبق لها؟". واذن فعلا م‏ا للتأسف والتلهف؟.

68

لا ترى الجاهل إلا مفرطا ومفرطا.


مفرط: مقصر مهمل، مفرط.مسرف متجاوز للحدود في جميع أموره‏لا يعرف معنى القصد، لا يهتدي الى رشد. ومثل الجهل وأسوأ علم بلا دين‏و عمل. وتقدم الكلام عن ذلك مرات، آخرها في الحكمة.53

69

إذا تم العقل نقص الكلام.

ووجه الملازمة بين تمام العقل وقلة الكلام ـ ان العقل من العقال، فإذا قوي‏و تم تغلب على اللسان وأمسكه عن اللغو والعبث، لا يطلقه إلا فيما ينفع، فإذا نقص العقل وضعف انطلق اللسان من عقاله، جرى على غير هدى هابطا وصاعدا.. وقد رأينا الجاهل يثرثر بغير حساب، يخبر بما لا يسأل عنه، يحدث‏من لا يصدقه ويضيق به وبحديثه. وتكلم رجل أمام الأحنف فأكثر، لما سكت‏قال له: يا هذا ما ستر الله منك أعظم. وتقدم مثله ويأتي أيضا.

70

الدهر يخلق الأبدان، يجدد الآمال، يقرب المنية، يباعد الأمنية، من ظفر به نصب، من فاته تعب.


(الدهر يخلق الأبدان). كلما تقدمت بنا الحياة وهن العظم، اشتعل الرأس‏شيب (ويجدد الآمال). اذا امتدت الحياة بالانسان في هذه الدنيا قويت العلاقة والإلفة بينه وبينه، ازداد بالدنيا أملا وتعلق، قد شاع وذاع:  "اذا شاب‏المرء شابت معه خصلتان: الحرص وطول الأمل". (ويقرب المنية) لأن ‏العمر في إدبار، الموت في إقبال، كما في الحكمة 28(ويباعد الأمنية) لقرب‏المنية (من ظفر به نصب، من فاته تعب).الهاء في "به وفاته" تعود الى ‏مال الدهر ومتاعه، المعنى من نال شيئا من مال الدهر غرق في الغرس والتعمير والتجارة والتثمير، إن حرمه الدهر كدح واجتهد سعيا وراء المال.. واذن هو في تعب دائم معدما ومثريا.

والخلاصة ان الإمام يقول للشيخ العجوز: بالأمس عملت لدنياك، فتقاعد عنهاالآن، اعمل لآخرتك فقد أزف الرحيل.

71

من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل‏تعليم غيره. وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه. ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس‏و مؤدبهم.


المراد بالإمام هنا المرشد والمعلم.. ولمرشد السوء علامات، منها أن يعظو يتصرف بعكس ما يقول، منها أن يطلب الدنيا بالدين، يخالط السلطان وأهل‏اليسار طلبا للعزة والجاه، منها أن يكون الكلام أحب اليه من الاستماع الى العلم، ان نبه الى خطئه أنف وثار..الى غير ذلك مما رأيناه وشاهدناه من كثير من‏المتسمين بسمة الدين وأهله.

إن الإرشاد يستهدف العمل قبل كل شي‏ء، فإذا كان المرشد مناقضا لنفسه‏و دينه تابعا لأهوائه وميوله ذهب إرشاده مع الريح.. وربما أحدث ردة فعل عند بعض السامعين وقال: لو كان الدين كما يصفه هذا الواعظ لظهر أثره في سلوكه.

وغير بعيد أن يكون الوعظ مكروها ممن يعلم بأن المستعين اليه على علم بفسقه وانه‏يعظ ولا يتعظ.. ومهما يكن فإن العقلاء يستقبحون دعوة الصلاح من الفاسد، والإخلاص من العميل الخائن.

وفي الحديث:  ان الله سبحانه أوحى الى عيسى عليه السلام: عظ نفسك، فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستح مني.

وبعد، فينبغي للواعظ أن يكون عالما بالدين وأحكامه، عاملا بعلمه، مخلصا في قصده، فصيحا يواتيه لسانه على بيان ما يريد، ذا رؤية نافذة يضع الكلام‏في مواضعه، جريئا في الحق لا يخشى فيه لومة لائم.

72

نفس المرء خطاه إلى أجله.


كل نفس من أنفاسك يدفع بك الى حفرة موحشة مظلمة، يعظك قائلا بلسان الحال: أنت الآن على ظهر الأرض ضيف مؤقت، غدا في جوفه، هو مقرك الأخير، فانسجم مع نفسك، تزود من دار الضيافة لدار القرار.

73

كل معدود منقض وكل متوقع آت.


المراد بالمعدود هنا كل كائن ممكن الحدوث وهو الذي لا يحدث بنفسه، بل‏بسبب خارج عنه، لأن طبيعته بما هي لا تحمل السبب الكافي لوجوده، المعنى ‏ان كل ما عدا الله سبحانه فهو فان لا محالة (وكل متوقع آت) المراد بالمتوقع ‏ما لا مفر من وقوعه وحدوثه في المستقبل القريب والبعيد، كالموت والبعث‏و النشر، عليه تكون كلمة "آت" لمجرد التوضيح. ومثله كل آت قريب.

74

إن الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها بأولها.


الأشياء تقاس بنتائجه، فالاقتصاد والتدبير خير وحسن لأن نتيجته صيانة المال‏و الراحة في المستقبل والاستغناء عن الناس، التبذير والإسراف شر وقبيح لأن‏نتيجته الفقر وضياع الثروة.. وأيضا البداية تدل على النهاية، المقدمة تبشر بالنتيجة، فالتدبير يدل على حسن العاقبة، التبذير على سوئه. وكلام الإمام يشير الى‏ ذلك ويقول: كل عاقل يستطيع التنبؤ بما سيحدث غدا من الوضع الحاضر، فكسل التلميذ الآن يدل على رسوبه في الامتحان، نشاطه على نجاحه، تخاذل‏العرب وضعف الثقة بأنفسهم دلالة قاطعة على هزيمتهم أمام كل غاز وطامع.

75

يا دنيا يا دنيا إليك عني، أبي تعرضت، أم إلي تشوقت.لا حان حينك هيهات غري غيري.لا حاجة لي فيك.قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها.فعيشك قصير، خطرك‏يسير، أملك حقير.آه من قلة الزاد، طول الطريق، بعد السفر، عظيم المورد.


قال الشريف الرضي والذين شرحوا النهج من بعده: ان ضرار بن ضمرة كان‏من أصحاب الإمام أمير المؤمنين وخاصته، بعده دخل على معاوية فقال له: يا ضرار صف لي علي، قال: أعفني.قال معاوية: لا اعفيك. قال ضرار: ما اصف منه، كان والله شديد القوى بعيد المدى، يتفجر العلم من جوانبه، الحكمة من أرجائه، حسن المعاشرة، سهل المباشرة، خشن المأكل، قصير الملبس، غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، يبتدئنا إذا سكتن، نحن مع تقريبه لنا أشد ما يكون‏صاحب لصاحب هيبة، لا نبتدئه الكلام لعظمته، يحب المساكين، يقرب أهل‏الدين، أشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، قد أرخى الليل سدوله وهو قائم ‏في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم، يبكي بكاء الحزين، يقول:  (يا دنيا يا دنيا اليك عني الخ).. هذا هو نهج علي.. وضعه هو لنفسه، عاشه بعمله، استهان بالموت من أجله..أبدا لا دنيا تذوق منه ويذوق منها.

انها محرمة عليه تحريما أبديا لا حل لها ولا محلل.. ومعنى لا دنيا لا شهوة وهوى، لا متعة ولذة، لا فردية وأنانية، لا سعادة لحظة واحدة، بل عناء قائم، وبلاء دائم.. وهكذا كانت حياة علي لا لشي‏ء إلا لأنه طلق الدنيا ثلاث، لكنه‏تقبل هذه الحياة عن رضا وطيب نفس.. واذا طلق الدنيا ثلاثا لا رجعة فيه، هجر حلاوتها وزينتهاـفكيف يمكن الجمع والتوفيق بينه وبين أهلها ومحبيها؟

ومن الذي يجمع بين الضرة وشريكتها؟. وهنا يكمن السر في نقمة الناقمين على‏ابن أبي طالب، ثورة الناكثين والفاسقين والمارقين، في عزلة المعتزلين عن‏بيعته ونصرته، في قول من قال: علي لا يعرف السياسة.. ومن قبلهم قال المشركون‏لمحمدصلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها الذي نزل عليه الذكر انك لمجنونـ6 الحجر.

76

ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حاتم. ولو كان ‏كذلك لبطل الثواب والعقاب، سقط الوعد والوعيد.إن الله‏ سبحانه أمر عباده تخيير، نهاهم تحذير، كلف يسيرا ولم يكلف‏ عسير، أعطى على القليل كثير. ولم يعص مغلوب، لم يطع‏مكره، لم يرسل الأنبياء لعب، لم ينزل الكتب للعباد عبث، لا خلق السموات والأرض وما بينهما باطل "ذلك ظن الذين‏كفروا فويل للذين كفروا من النار".


روى جماعة، منهم الكليني في "أصول الكافي" ، أبو الحسين في كتاب "الغرر"، الشريف الرضي : إن رجلا شاميا حارب مع الإمام في صفين، بعد منصرفه منها سأل الإمام: هل كان مسيرنا الى حرب أهل الشام بقضاء من‏الله وقدره؟.فقال له: ما وطئنا موطئ، لا هبطنا واديا إلا بقضاء الله وقدره.

فقال السائل: عند الله أحتسب عناي..ما أرى لي أجرا.فقال له الإمام: مه، لقد عظم الله أجركم في مسيركم وفي منصرفكم، لم تكونوا في شي‏ء من‏حالاتكم مكرهين ولا مضطرين.فقال السائل : كيف وقد ساقنا القضاء والقدر؟.

فقال الإمام: (ويحك لعلك ظننت الخ).. وفيما يلي البيان.

هناك مواضيع ثلاثة متشابهة متشابكة، الأول: القضاء والقدر.الثاني: الجبرو الاختيار. والثالث : الهدى والضلال. وتكلمنا عن كل منها مفصلا في كتاب "فلسفة التوحيد والولاية". ونشير هنا بإيجاز الى معنى القضاء والقدر والاختيار بحكم الموضوع الذي نحن بصدده.

لكل من القضاء والقدر معان. وأوضح معاني القضاء انه البت والإمضاء الذي لا مرد له. وأوضح معاني القدر انه التقدير.قال الإمام الكاظم نجل‏الإمام الصادق: القدر هو تقدير الشي‏ء من طوله وعرضه، القضاء هو إمضاء لا مرد له. وقال الإمام الرضا حفيد الإمام الصادق: القدر هندسة، القضاء إبرام.

أما مسألة الجبر والتفويض فالذي عليه الشيعة الإمامية هو "لا جبر ولا تفويض‏بل أمر بين الأمرين". ومعنى الجبر ان الانسان لا أثر له إطلاقا في أفعاله، انما هي بالنسبة اليه تماما كجريان الدم في عروقه، خروج النفس من أنفه.

ومعنى التفويض ان الله أمر العبد ونهاه، أعطاه القدرة على الطاعة والمعصية، ثم فوض اليه أمر هذه القدرة يفعل بها ما يشاء، قطع سبحانه كل علاقة بينه‏و بين هذه القدرة بحيث أصبح الله بالنسبة الى قدرة العبد بعيدا عنها تماما كالبائع‏الذي باع سلعته للمشتري يفعل بها ما يريد بلا مزاحم ومعارض.

ومعنى "أمر بين الجبر والتفويض" ان الله بعد أن أمر العبد ونهاه منحه القدرة ولم يحرمه اياها كما زعم الجبريون، لكنه تعالى لم يعرض كلية عن هذه القدرة ويقطع العلاقة بينه وبينها كما ادعى المفوضية، بل بقيت قدرة العبد في قبضة خالقها وتحت سلطته ينزعها من العبد متى شاء، العبد لا يستطيع أن يرفض هذه‏القدرة، يقول لله: لا أريده، أيضا لا يستطيع ابقاءها اذا أراد سبحانه أن‏ينزعها منه، بهذا الاعتبار يكون العبد مسيرا لا مخير، أيضا بالقدرة التي‏منحها الله له يستطيع أن يفعل ويترك، يكون من هذه الجهة مخيرا لا مسير، معنى هذا ان العبد مسير من جهة، مخير من جهة، هذا هو معنى بين بين، أمر بين أمرين.

وللتوضيح نقدم هذا المثال: أب قوي مسيطر على ولده أعطاه مال، قال له: اتجر به، فأخذ الولد المال لأنه لا يستطيع رفضه بحال، أيضا لا يستطيع‏الاحتفاظ به اذا أراد الوالد نزعه منه، لكنه قادر على الاتجار به وفقا لارادة أبيه، أيضا هو قادر أن يجمد المال ولا يتاجر، معنى هذا انه مسير في رفض‏المال وابقائه، مخير في التجارة وعدمه. وهكذا القدرة التي منحها الله للإنسان، انها في الانسان يفعل بها ويترك، لكنها في الوقت نفسه في قبضة الله أيضا تماما كالمال الذي أعطاه الوالد لولده. ومن أراد المزيد فليرجع الى كتاب "فلسفة التوحيد والولاية".

وبعد هذا التمهيد المفيد إن شاء الله نشرع بإيجاز بتفسير الكلمات(ولو كان‏ذلك كذلك)أي لو كان الانسان مسيرا كما يقول الجبريون(لبطل الثواب والعقاب)حيث يكون الانسان، الحال هذه، تماما كريشة في مهب الريح، فعله كالثمرة على الشجرة(وسقط الوعد)على الطاعة(والوعيد)على المعصية، لأن الوعدو الوعيد فرع عن وجود الثواب والعقاب.

(ان الله سبحانه أمر عباده تخييرا) أي ما أمرهم أن يفعلوا إلا لأنهم قادرون‏و مخيرون، لو كانوا مسيرين ما كلفهم بشي‏ء.كيف وهو القائل:  لايكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبتـ286 البقرة.

(ونهاهم تحذيرا) من غضبه وعقابه، من البداهة انه لا معنى من التحذير إلا مع القدرة والاختيار (وكلف يسيرا) وسهلا يستطيع الإنسان أن يسمع ويطيع‏بلا عسر وحرج قال سبحانه : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجـ6المائدة. (ولم يكلف عسيرا) عطف تفسير على "كلف يسير" تماما كقوله‏تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسرـ185 البقرة فإن اليسر بطبعه يستدعي نفي العسر.

(وأعطى على القليل كثيرا) أعطى الثواب الكثير على العمل اليسير الذي فعله‏الإنسان بمل‏ء إرادته وتمام قدرته(ولم يعص مغلوبا)إذا عصى الإنسان فليس‏معنى هذا ان الله عاجز عن ردعه عن المعصية..كل، انه على كل شي‏ء قدير، لكن يترك للإنسان حريته لأنه لا إنسانية بلا حرية(ولم يطع مكرها) وأيضا لو أراد أن يمنعه عن الطاعة لفعل، لكنه لا يفعل لأنه عادل وحكيم، لا تتناقض‏أقواله مع أفعاله(ولم يرسل الأنبياء لعبا) بل ليرشدوا الخلق الى الحق (ولم ينزل الكتاب للعباد عبثا) عطف تفسير، لأن الحكمة من إرسال الرسل وإنزال‏الكتب واحدة (ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا) بل لتتجلى فيها قدرته وعلمه وجلاله وكماله.

77

خذ الحكمة أنى كانت، فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره، حتى تخرج فتسكن إلى‏صواحبها في صدر المؤمن.


الحكمة عصارة أفكار العقلاء المجربين، من شأنها أن تهدي للتي هي أقوم.

وفيما مضى كان النفاق نعتا لمن يضمر الكفر ويظهر الإيمان، اليوم يوصف به‏كل من أضمر شر، أعلن خير، معنى قول الإمام هو ان المنافق يمارس‏الحياة ويجربها كغيره من المجربين والعارفين، يستخرج الحكمة والحقيقة من‏تجاربه كأي عاقل، ينطق بها من حيث يريد ولا يريد، لأن الحقيقة في‏حركة دائبة لا تستقر في مكان، المراد بالمؤمن هنا من يبحث عن الحق لوجه‏الحق، هذا المؤمن رائده الحقيقة والحكمة يأخذها أنى كانت وتكون، حتى من‏الملحد والمنافق، ينتفع بها في سلوكه، أما المنافق فإنه يحسها وينطق به، لكن‏لا تنفعه في كثير وقليل، لأنه يقول ولا يفعل، يفعل ما لا يقول، لايتحرك ويتصرف إلا في الاتجاه المعاكس للحق والواقع.

والمنافقون في عصرنا لا يحصون كثرة، منهم الذين حولوا أقوات الخلائق‏الى أسلحة الهلاك والموت بالجملة، هم يتسترون بكلمات الدفاع عن الحرية وصيانة السلم والمدينة، يصنعون سفن الفضاء للتجسس على الشعوب ويقولون: هي لمنفعة الإنسان وسعادته، لقضاء شهور العسل في القمر والزهرة، أيضا يقتلون الأحرار باسم القصاص من العناصر التي يسمونه "هدامة" ، يعتدون على الشعوب دفاعا عن‏الحدود الآمنة!و لكن الحقيقة تخرق بقوتها الأسوار، تدور في الآفاق معلنة عن‏نفسه، يسمعها ويراها القريب والبعيد.

78

الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل ‏النفاق.

الحكمة رائد كل عاقل مؤمنا كان أم ملحد، إنما خص المؤمن بالذكر للإشارة الى ان من طلب الحق لوجه الحق ينبغي أن يكون مؤمنا بالله واليوم‏الآخر، لأن هذا الإيمان حق وعدل، العلم يؤدي الى الحق والحقيقة، الذي‏يناقض هذا الإيمان هو الفسق والانحلال، الخيانة والاستغلال(ولو من أهل‏النفاق)و منهم المسيطرون على وسائل الإعلام في هذا العصر. وسبق الكلام عن‏الحكمة في الرقم السابق بلا فاصل، بعض الشارحين جمع بين الرقمين لوحدة الموضوع والهدف.

79

قيمة كل امرى‏ء ما يحسنه.


يشير الإمام بهذا الى معيار التقويم للأشخاص والأفراد في المجتمع، ان الفرد لا ينبغي أن يقدر ويعتبر لنسبه ولقبه، لا لماله ومنصبه، لا لفصاحته وانتصاراته‏في ميادين القتال والمباريات الرياضية، لا لعلمه وما يحمل من شهادات وأوسمة، بل لما يحسنه أي ينتجه ويسديه لأخيه من نفع وإحسان. وعن النبي الكريم:  "إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها صوم ولا صلاة ولا حج وانما يكفرها سعي‏الرجل على عياله" فكيف اذا سعى لعيال الله سبحانه من المحاويج والبائسين؟.

وفي حديث آخر:  "إن لله عبادا في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون‏يوم القيامة". ويومى‏ء هذا الحديث الى الصلة الوثيقة بين الآخرة والدني، ان‏من كان في هذه أعمى فهو في تلك أعمى وأضل سبيلا.

وقد ينادي مخادع ماكر بأماني الناس، يتلاعب بأحلامهم، فيقدمون له‏بعض التضحيات عن سذاجة وبراءة حتى اذا بلغ منهم ما يريد قلب لهم ظهر المجن!. وهذا من المنافقين الذين سبقت الإشارة اليهم قبل قليل.

80

أوصيكم بخمس لو ضربتهم إليها آباط الإبل لكانت لذلك‏أهلا.لا يرجون أحد منكم إلا ربه، لا يخافن إلا ذنبه. ولا يستحين أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم. ولا يستحين‏أحد إذا لم يعلم الشي‏ء أن يتعلمه. وعليكم بالصبر فإن الصبر من‏الإيمان كالرأس من الجسد، لا خير في جسد لا رأس معه، لافي إيمان لا صبر معه.

أوصى الإمام في حكمته هذه بخمس وصاي: 

1ـ (لا يرجون أحد منكم إلا ربه) المراد بالرجاء هنا السؤال وطلب الحاجة، هو بطبعه يستدعي الخضوع والمذلة. وقديما قيل: السؤال ذل ولو أين الطريق؟

والتذلل لله سبحانه عز وإباء، لغيره خسة ودناءة، لأنه خضوع محتاج الى ‏محتاج، تحمل للمنة من معدم على معدم..قال الإمام زين العابدين عليه السلامفي‏بعض مناجاته: اللهم ان وكلتني الى نفسي عجزت، ان وكلتني الى خلقك‏ تجهموني، ان ألجأتني الى قرابتي حرموني، ان أعطوا أعطوا قليل، ملوا طويل، ذموا كثيرا.

والشرط الرئيسي في الرجاء طاعة الله في السعي والعمل والثقة بالنفس مع الإيمان‏بأن وراءها ووراء كل شي‏ء قوة عليا تعين وتمهد لبلوغ المطلوب.

2- (ولا يخافن إلا ذنبه). كل ما يجري عليه حساب وعقاب فهو اثم ‏وذنب، ما عداه لا حساب عليه ولا عقاب، إذن فلا موضوع ومبرر للخوف‏من العذاب والعقاب على غير الذنوب والآثام..أما الخوف من حدوث مكروه‏كالفقر والمرض وفقد حبيب وقريب فهو طبيعة وغريزة، قصد الإمام بعيد عن ذلك، مراده الأول التحذير من معصية الله، التخويف من عذابه وغضبه. وتقدم مثله مرارا.

3- (ولا يستحين أحد منكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم) ومن ترك هذا القول أصيبت مقاتله، كما قال الإمام في الحكمة الآتية. وقال ‏لولده الإمام الحسن: ما أكثر ما تجهل، قال سبحانه لنبيه الكريم: وقل‏ربي زدني علماـ114 طه. ومن استقل ما لديه من علم سعى واجتهد في‏طلب المزيد، من ادعى كثرة العلم تحول علمه الى جهل، قد عرفت وبلوت ‏أشخاصا يحسبون كل ما يخطر في قلبهم من وهم وخيال وحيا وعلما حتى‏ كأن علمهم عين ذاتهم، معنى هذا في واقعه أنهم يدعون الربوبية من حيث‏لا يشعرون.

4- (ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشي‏ء ان يتعلمه)
ويسهر الليالي في العلم وتحصيله، يتحمل المشقة في سبيله، من استخف بطلب العلم فقد استخف بنفسه وحقرها.

5- (وعليكم بالصبر الخ)...
ومن لم يحمل نفسه على الصبر فلا يتم له‏دين ولا عقل ولا عمل...ان الصبر هو الأساس والركن الركين لكل خير وفضيلة لا للدين والإيمان فقط، من الصبر ترك الشكوى وإخفاء الضر والبلوى، أية جدوى من الجزع والقلق إلا مضاعفة المصاب وتراكمه؟. وبالصبر خرج يوسف‏من البئر وصار عزيز مصر، بترك الصبر وعدم العزم خرج آدم من الجنة ولاقى‏هو وذريته من العذاب والأوصاب في الحياة الدنيا ما يفوق التصور.

81

أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك.

أفرط بعضهم في الثناء على الإمام، كان له متهما فقال: (أنا دون ما تقول الخ)...كان الإمام يكره الثناء ويأباه بطبعه، هذا حتم وضرورة لمن‏عظم الخالق في نفسه... وعاتب الإمام بعض أصحابه على الإطراء وقال: كرهت‏أن يجول بخاطركم اني أحب الإطراء..فلا تثنوا علي بجميل، لا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، لا تخالطوني بالمصانعة، لا تظنوا بي التماس إعظام لنفسي.. إلى آخر ما جاء في الخطبة.214

وفي كتاب "الحكمة الخالدة" ان الإمام قال:  "احذر من يطريك بما ليس فيك، فيوشك ان يبهتك بما ليس فيك". ولا أدري ماذا قال هذا المتهم ‏للإمام، ل أن ما لدي من المصادر لم يشر الى ذلك من قريب وبعيد. وربما أطراه بما هو فيه ودون ذلك، لكن المطري كان في قلبه مرض، كما يشعر جواب الإمام.

82

بقية السيف أبقى عددا وأكثر ولدا.


نقل ابن أبي الحديد عن شيخه أنه قال:  "ليت الإمام ذكر العلة لذلك" وأرجح ما قرأت في التعليل قول الشيخ محمد عبده:  "بقية السيف هم الذين ‏يبقون بعد الذين قتلوا في حفظ شرفهم ودفع الضيم عنهم، فضلوا الموت على‏الذل، فيكون الباقي شرفاء نجباء، عددهم أبقى، ولدهم أكثر بخلاف‏الأذلاء، فإن مصيرهم الى المحو والفناء". ويتفق هذا التفسير تماما مع قول‏الإمام في الخطبة 51:  "الموت في حياتكم مقهورين، الحياة في موتكم قاهرين" وقول ولده سيد الشهداء : لا أرى الموت إلا سعادة، الحياة مع الظالمين إلابرما.

83

من ترك قول لا أدري أصيبت مقاتله.


تقدم الكلام عن ذلك قبل قليل.أنظر الحكمة 80 وفي كتاب "الحكمة الخالدة:  "تعلم قول لا أدري.فإنك ان قلت لا أدري علموك حتى تدري.

وإن قلت اني أدري سألوك حتى لا تدري. وما أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:  قال سلوني إلا علي بن أبي طالب عليه السلام".


84

رأي الشيخ أحب إلي من جلد الغلام.


الشيوخ المجربون للرأي والتخطيط، الشباب للشجاعة والعمل، ليس من‏شك ان العمل والشجاعة بلا تخطيط فوضى ومجازفة. وتقدم الكلام عن ذلك في‏شرح الحكمة 46 عند قول الإمام:  "والحزم بإجالة الرأي".

85

عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار.


المراد بالقنوط هنا اليأس من عفو الله ورحمته، بالاستغفار التوبة. ويشير الإمام بهذا الى قوله تعالى: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم53 الزمر".

86

كان في الأرض أماناً من عذاب الله وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به.أما الأمان الذي رفع فهورسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الأمان الباقي فالاستغفار قال الله تعالى: و ما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.


هذه الآية الكريمة رقمها 33 في سورة الأنفال، للمفسرين فيها تأويلات‏و أقوال تترك القارى‏ء في ظلمات ليس بخارج منه، الذي نفهمه نحن ان ضمير الغائبين في ليعذبهم يعود الى أهل مكة، ان المراد بالاستغفار هنا الإسلام، لأنه نجاة من عذاب الله، المعنى ان الله لا يعذب أهل مكة ما دام فيهم‏ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إكراما وتعظيما لشأنه ومقامه. وأيضا هو سبحانه لا يعذبهم‏من بعده شريطة أن يؤمنوا برسالته. وقول الإمام:  "دونكم الآخر فتمسكوا به" معناه تمسكوا بالإسلام قولا وفعل، دافعوا عنه بكل ما تستطيعون، الذي‏يؤيد إرادة هذا المعنى قوله في الخطبة 150:  "الإسلام اسم سلامة" والسلامة والأمان كلمتان مترادفتان.

87

من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه. ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ.


(من أصلح ما بينه وبين الله الخ)..إذا أردت أن تكسب قلوب الناس‏و ولاءهم نحوك فلا بدـقبل كل شي‏ءـ أن تكف أذاك عنهم يدا ولسان، أن تعمل لصالحهم قدر جهدك، أن تكون مستعدا لتقبل الصدمات منهم ومن‏غيرهم والصبر عليه، متى توافرت فيك هذه الصفات كنت مرضيا عند الله‏لطاعتك له، عند الناس لجهادك من أجلهم.

(ومن أصلح أمر آخرته الخ).. ليست الآخرة مجرد نظرية كمثل أفلاطون، لا قيمة إنسانية تهدف الى الترغيب والترهيب وكفى، كما يظن..كل، ان‏ الإسلام لا يعنى أبدا بالنظريات المجردة، لا بالقيمة في ذاتها..انه دين علم‏و عمل، الآخرة عنده وفي الواقع عالم خارجي يحس ويلمس، فيه طعام وشراب، نعيم وعذاب تماما كعالمنا هذ، الفرق أن الدنيا يعمل فيه، الآخرة يعمل‏له، العمل الأهم في الدنيا من أجل الآخرة هو الصدق والأمانة، الإخلاص ‏في العمل والنضال لخدمة الإنسان وحل مشاكله واستصلاح أحواله.. وكما ان‏ العمل في هذا الميدان سبب للفوز بسعادة الآخرة فهو أيضا سبب للنجاح والرفعة في الحياة الدنيا.قال سبحانه: و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى‏و أضل سبيلاـ72 الإسراء. وكل باحث منصف مسلما كان أم غير مسلم ‏يعترف بأن أول دين ربط بين الدنيا والآخرة، جعل تلك مطية لهذه هو دين‏الإسلام.

(ومن كان له من نفسه الخ)..ان الوظيفة الأولى للعقل السليم هي وقاية صاحبه‏من المجازفة. ومن البداهة ان من كان له هذا الحصن الحصين عاش في أمن‏و أمان من المهالك والمخاوف. وعبر الإمام عن هذا العقل الواقي بالواعظ من‏النفس والداخل. وفيه ايماء الى ان المواعظ الخارجية لا تجدي نفعا إلا اذا ترك ت‏أثرا طيبا في النفس والعقل. وسبق الكلام عن ذلك عند قول الإمام في الحكمة 37:  "أغنى الغنى العقل".

88

الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، لم‏يؤيسهم من روح الله، لم يؤمنهم من مكر الله.


المراد بكل الفقيه، الفقيه الكامل الذي توافرت فيه صفات الهادي والمرشد، المعنى ان لله سبحانه جنة ونار، المؤمن العاقل يصدر بأقواله وأفعاله عن خوف‏من هذه وطمع في تلك. والمرشد العارف بحقيقة الإسلام يسلك بالناس هذه‏السبيل، فإذا خوفهم من النار فتح لهم باب الأمل والرجاء في الجنة، اذا رغبهم في الجنة خوفهم من النار، كما هو شأن القرآن الكريم: ﴿واعلموا ان ‏الله شديد العقاب، ان الله غفور رحيمـ98 المائدة. وسبق الكلام عن‏ذلك بنحو من التفصيل في شرح الخطبة 158 فقرة "فلسفة الرجاء والخوف".

89

إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم.

كل ما في الطبيعة من روعة وجمال هو من حكمة الله الخالدة التي أعطت الكون‏و الانسان ما أعطت، لا تنحصر الحكمة بخصوص الأمثال والكلمات القصار في‏مدح الزهد والتقوى كما فهم ابن أبي الحديد وغيره من الشارحين، لأن الإمام ‏أراد بالحكم هنا ما يذهب عن القلب الملل والسأم، عليه فمطلع الفجر وحدائق ‏الزهر والصفصاف على ضفاف النهر، كل ما فيه عظمة الإعجاز الإلهي، يرضي النفس ويوقظ فيها الحياة والأملـ فهو من الحكمة، علينا أن ننشده ونتمتع به كلما أحسسنا بالتعب والفتور ليعود الينا النشاط والأمل، نستأنف الجهاد والنضال.

90

أوضع العلم ما وقف على اللسان، أرفعه ما ظهر في‏الجوارح والأركان.

جوارح الإنسان أعضاؤه التي يستعين بها على العمل، العضو الرئيسي في جسد الإنسان يطلق عليه الركن. والعلم فهم ودراية، لا حفظ ورواية، من وثق‏بالكلام واكتفى به عن الوعي والعمل فهو اسطوانة وشريط مسجل.. والفرق ان‏هذا الشريط يتكلم ولا يسمع، أما الحافظ فإنه يتكلم ويسمع، أيضا يحب الاستماع‏الى صوته.. والعالم حقا هو الذي لا يهتم بالحفظ والتفوق بالجدال على الأقران، بل ينظر الى الألفاظ كوسيلة، العمل النافع هو الغاية في نظره.

قال فيلسوف صيني:  "ان حب الإنسان للكلمات هي الخطوة الأولى في طريق‏جهله وعدم وعيه" ذلك بأن الحقيقة لا تتخلى عن الحياة والعمل، الخرافة وحدها هي التي لا تتصل بالحياة من قريب وبعيد. ويأتي قول الإمام:  "العلم مقرون  ‏بالعمل، فمن علم عمل، العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه".

وباختصار إن العالم الكامل هو الذي يجعل الحياة أكثر خصبا وعدلا وأمنا.

91

لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة لأنه ليس ‏أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، لكن من استعاذ فليستعذ من ‏مضلات الفتن، فإن الله سبحانه يقول: ﴿واعلموا أنما أموالكم ‏ أولادكم فتنة. ومعنى ذلك أنه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه، إن كان سبحانه أعلم بهم‏من أنفسهم، لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب، لأن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث، بعضهم يحب تثمير المال ويكره انثلام الحال.


المراد بالفتنة هنا الامتحان والاختبار بالمال والجاه والبنين، المراد بمعضلات‏ الفتن الطغيان بسبب المال والولد وما أشبهه، المعنى لا تتعوذ من الفتنة بوجه العموم، فإن منها زينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق التي أحلها سبحانه لعباده، بل‏تعوذ من إغراء الفتنة وحبائله، لأن الدنيا وزينتها كثيرا ما تصرف الإنسان عن‏دينه وضميره.. وقد شاهدنا الإنسان يبتعد عن الخير كلما أمعن في المادة والترف.

(ومعنى ذلك انه يختبرهم الخ)..ان الله سبحانه يعلم من عباده ما فعلو او ما سيفعلون من خير وشر، لكن سبق في عدله وقضائه أن لا يحاسب أحدا على ما يعلم منه، ما ينطوي عليه صدره وسره، بل يحاسبه ويجازيه على ماظهر منه بالفعل بعد أن وهبه القدرة والعقل والإرادة، رزقه من الخيرات‏و الطيبات، أمره ونهاه، فإن خالف وعصى قامت عليه الحجة واستحق المؤاخذة والعقاب.

92

ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، لكن الخير أن‏يكثر علمك ويعظم حلمك، أن تباهي الناس بعبادة ربك فإن أحسنت حمدت الله، إن أسأت استغفرت الله.


ولا خير في الدنيا إلا لرجلين: رجل أذنب ذنوبا فهو يتداركها بالتوبة، رجل يسارع في الخيرات.

المال من حيث هو لا يحمد ولا يذم، لأنه حجر وورق، انما ينظر اليه من حيث أثره ومفعوله، إن خيرا فخير، إن شرا فشر، قال سبحانه‏كمثال على الشر: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله‏فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةـ36 الأنفال. وقال كمثال على الخير: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل‏سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاءـ261 البقرة وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:  "نعم المال الصالح للرجل الصالح" وكذلك الولد هو خير إن كان صالح، شر إن كان طالح، العلم خير كله ان جعل الحياة أكثر خصبا وأمنا وعدل، شر إن قتل الآدميين وروع الآمنين. وتسأل: اذا كان كل المال والولد والعلم يحمد من حيث هو خير، يذم‏من حيث هو شرـ فلماذا نفى الإمام الخير عن المال والولد دون العلم، مع أن الجميع‏من فصيلة واحدة؟.

الجواب: لا يريد الإمام بقوله هنا ان يوازن بين المال والولد من جهة، العمل من جهة ثانية، بل هدفه الرد على من يرى الخير كل الخير في الأموال‏و الأولاد، لا يرى خيرا في غيرهم إطلاقا علما كان أم حلم. ومن قبل قال‏المترفون: نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبينـ35 سبأ.

(وأن تباهي الناس بعبادة ربك).ليس المراد بالتباهي هنا التفاخر، بل‏المراد أن لا ترى نفسك شيئا مذكورا بالمال والولد، بل بالعلم والحلم وطاعة الله وحسن السلوك (فإن أحسنت حمدت الله) الذي هداك الى عمل الخيرات(وان‏أسأت استغفرت الله)من سيئاتك، تداركتها بالتوبة والمسارعة الى الصالحات(ولا خير في الدنيا الخ)..الشي‏ء الأعظم في كل عمل في الدنيا هو ما ينفعك‏في الآخرة كالتوبة من الذنب، العمل لخدمة الإنسان.

93

لا يقل عمل مع التقوى. وكيف يقل ما يتقبل.


التقوى أن تتقي غضب الله سبحانه، لا تتعدى حدوده وشريعته.. وأيضا من التقوى اتقاء الشبهات والتورع عما لا تدري أحلال هو أم حرام، المرادبالعمل القليل هنا الاقتصار على ما وجب بلا زيادة ونقصان، من وفق لذلك‏فقد زحزح عن النار، من زحزح عنها فقد فاز. وكفى بهذا الفوز فضيلة وسعادة.

94

إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به.ثم تل "إن‏أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين‏ آمنو".

المراد بأولى الناس بالأنبياء الولاية عنهم، يعبر عنها بالخلافة، هي علاقة إلهية طبيعية بين النبي وخليفته، لا تكون هذه الخلافة والولاية ولن تكون إلا لعالم برسالة النبي عامل بها ومناصر له في جميع مواقفه. ويشير الإمام بهذا الى ‏نفسه وانه أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه امتداد له علما وأخلاقا.

وتجدر الإشارة الى ان الاسلام يورث العبد من سيده اذا كان قد أعتقه تبرعا ولا وارث سواه، يسمى في اصطلاح الفقهاء الإرث بالولاء.فكيف اذا اجتمعت‏القرابة والولاية مع، كما هي الحال بين محمد وعلي؟.

95

إن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، إن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته.


اللحمةـ بضم الحاءـ القرابة، الإمام يرد بهذا على الذين احتجوا من‏قريش على الأنصار يوم السقيفة، زعموا انهم أولى بالخلافة لقرابتهم من رسول‏الله.. فقال الإمام: إن الله سبحانه لا يتعامل مع أحد من خلقه بمنطق قبلي أو شخصي، فالكل عنده سواء إلا من ابتغى اليه الوسيلة بالطاعة والتقوى. وأيضا لا ولاية ولا قرابة بين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيره إلا على هذا الأساس من غير فرق بين‏قرشي وحبشي، بهذا نطقت الآيات والروايات، قال سبحانه: إن أكرمكم‏عند الله أتقاكمـ13 الحجرات وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:  "يا فاطمة بنت محمد اني لا أغني عنك من الله شيئ" . وهذا معروف ومشهور عن دين الاسلام عند كل الأمم والطوائف. وتقدم الكلام عنه مرات.

96

نوم على يقين خير من صلاة في شك.


قال الإمام هذا حين سمع رجلا من الخوارج يتهجد أي يصلي ويتعبد في الليل.

واليقين أن تؤمن بالله كأنك تراه، من بلغ ايمانه الى هنا لم يقم في وجهه أي حاجز عن العمل بمرضاة الله، يستهين بالموت في هذه السبيل، تاريخ الشهداء هو تاريخ هذا اليقين، هو بنفسه عبادة، بل هو المصدر والمنبع الذي تفيض‏منه العبادات والصالحات، اذن فلا عجب اذا كان صاحب هذا اليقين عابدا قانتا في نومه، كان الشاك عاصيا ضالا في صلاته.

97

إعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية فإن‏رواة العلم كثير ورعاته قليل.


الفرق بين الرعاية والرواية كالفرق بين من بنى صرحا بعلمه ويده، من‏رأى هذا الصرح بعينه، أخبر عنه بلسانه..على ان الإخبار عن الإعيان الخارجية لا يحتاج الى العلم والدرس، رواية العالم لها تماما كرواية الجاهل ما دام كل منهماثقة في النقل، أما القيم الروحية كالخير فلا تعرفها وتدركها إلا عقول الراسخين‏في العلم(فإن رواة العلم كثير) وهم الذين ينقلون ويروون عن العلماء. وقال‏قائل من الرواة:  "أنا أحفظ لأهل البيت ثلاثمئة ألف حديث" . وهذا الراوي‏وحده يعادل عشرات الرواة، مثله كثير(ورعاته قليل) أي العلماء بحق.

98

(وسمع رجلا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال عليه السلام): إنا قولن: إنا لله، إقرار على أنفسنا بالملك. وقولن: و إنا إليه راجعون، إقرار على أنفسنا بالهلك.


من أقر على نفسه بالملك حرم عليه التصرف بشي‏ء منها إلا بترخيص المالك، من تصرف بلا اذن وترخيص منه تعالى فهو غاصب ظالم. وأيضا من أقر بالموت‏فعليه أن ينسجم مع نفسه واعترافه، لا يعمل عمل الخالدين.

99

(ومدحه قوم في وجهه فقال): اللهم إنك أعلم بي من‏ نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلنا خيرا مما يظنون، اغفر لنا ما لا يعلمون.


يستصغر الإمام كل شي‏ء في جنب الله، ليس نفسه فقط، هذه هي نظرة العارفين ولغتهم، هذا دأبهم وطبعهم، لذا لا يثني الإمام على نفسه إلا لضرورة كما قال يوسف: اني حفيظ عليمـ55 يوسف. وأيضا يكره الإمام الثناء من غيره. ولذا دعا بهذا الدعاء حين سمع المديح والإطراء.. وقال قائل، هو يشرح هذه الحكمة:  "طلب الإمام من ربه المغفرة على ترك الأولى لا على فعل‏الذنب". وقد صار هذ "الترك" مأوى العاجزين يفرون اليه لسبب وغير سبب‏حتى ولو قال المعصوم: استغفر الله.. ونسوا ان هذه هي لغة الأنبياء والصديقين.

100

لا يستقيم قضاء الحوائج إلا بثلاث: باستصغارها لتعظم، باستكتامها لتظهر، بتعجيلها لتهنؤ.


الفرق بين التعاون وقضاء الحاجة ان التعاون تكامل، الهدف منه مصلحة الجميع، أما قضاء الحاجة فهو مساعدة ثنائية من فرد لآخر، لكنه من الفضائل‏و مكارم الأخلاق، لأن الساعي في حاجة أخيه يبرد كبده، يرد لهفته، هذاإن عجل الحاجة وكتمها واستصغره، أما اذا أجل وأعلن واستكثر فإنه يكدر صفو الحاجة، يذهب نورها وأجرها.

واللام في "لتظهر" للعاقبة مثل لدوا للموت وابنوا للخراب، لأن مسدي‏المعروف اذا تجاهله أعلن عنه المسدى اليه، أثنى عليه أمام الناس، هم بدورهم‏يتحدثون، يتخذون منه مثلا يحتذى.

شبكة المعارف الإسلامية تهنئ المسلمين بحلول عيد الغدير الأغر أعاده الله عليكم بالخير واليمن والبركة